يستنكف كثير من الدعاة أن يتحدث عن زوجته أو أن يذكر كفاحها معه، أو أن يسطّر بذلها وعطاءها فى خدمة الإسلام أو الأوطان، وهم بذلك يغفلون عن هدى النبى «صلى الله عليه وسلم» الذى كان يذكر دوما فضل السيدة خديجة حتى انتفض يوما ًغاضبا على السيدة عائشة التى غارت من كثرة ترديده لفضل السيدة خديجة.. فقالت له: لقد أبدلك الله خيرا منها.. فقال: لا أبدلنى الله خيرا منها.. لقد أعطتنى حينما حرمنى الناس وواستنى بنفسها ومالها، إنه الوفاء الكبير وذكر فضل الزوجة الوفية حتى بعد وفاتها تعليما ًلأجيال الدعاة من بعده.
واليوم أقتدى بالنبى «صلى الله عليه وسلم» لأذكر وأشكر زوجتى الفاضلة أم هيثم، على عطائها الفياض وبذلها وتحملها معى سنوات طويلة فى سجنى واعتقالى. إننى اليوم أذكر ذلك بمناسبة مرور أكثر من 20 عاما ًعلى زواجنا.. لقد عاشت معى زوجتى على الكفاف فى فترة سجنى واعتقالى.. رغم أنها من أسرة كريمة ميسورة قبل اعتقال اثنين من أبنائها.. مما أدى إلى قصم ظهرها الاقتصادى والمعنوى، لقد قبلت زوجتى أن تتزوجنى وأنا فى السجن راضية وراغبة رغم صعوبات حياتى ومشقتى.. وقد قالت لى يومها: لقد قبلت أن أتزوجك لأخدمك وأرعاك، خاصة أن والدتك قد كبر سنها وبعدت المسافة عليها.. ولن تطلب شيئا ولم تشترط شيئا، قد قدمت أسرة زوجتى كل فتياتها للزواج من قادة ودعاة شهيرين فى الجماعة الإسلامية مثل زوجة الشيخ عصام دربالة وزوجة الشيخ محمد سيد وزوجة المهندس حامد عطا.. والزوجتان الأوليان صبرتا سنوات طويلة على سجن واعتقال زوجيهما وتحملتا ما لا تتحمله الجبال فى سنوات طويلة عصيبة.
لقد بذلت زوجتى الكريمة أم هيثم معى بذلا لا يستطيع قلمى أن يعبر عنه سنوات طويلة عصيبة من السجن والقهر والبهدلة والتفتيشات والتنقلات 14 عاما ً كاملة وهى تجرى خلفى من سجن إلى سجن لا تكل ولا تمل. كانت تعيش فى الإسكندرية فطلبت منها أن تنتقل إلى القاهرة التى لا تحبها، فقبلت ووافقت، كانت تعيش فى القاهرة فى حى شعبى متواضع فى غرفة وصالة لا تدخلها الشمس أبدا وليست فيها مياه جيدة للشرب، وكان ابنى الأكبر هيثم يذهب لإحضار المياه النقية من مكان يبعد قرابة نصف كيلو متر وعمره وقتها لم يجاوز التاسعة.. فلما ضاق صدرها بالقاهرة عادت إلى الإسكندرية لتواجه أهوالا من نوع آخر.
كانت تركب قطار الصحافة المعروف بشبابيكه المحطمة وزحامه المفرط مع بطئه الشديد ليصل إلى القاهرة بعد 5ساعات.
كانت تخرج من البيت مع شقيقاتها فى الثالثة فجرا والمطر ينهمر بقوة فى الشتاء والأجساد ترتعد من البرد ويصاحبهن الخوف من السير فى شوارع الإسكندرية فى مثل هذا الوقت من الليل وإذا وصلوا إلى القاهرة ظلوا ينتظرون أمام باب السجن حتى الثامنة صباحا ً ويسجلون أسماءهم فى كشوف الزيارات.. ثم ينتظرون قرابة 5 ساعات حتى يدخلوا الزيارة الواحدة أو الثانية ظهرا.. وأحيانا فى الثالثة أو الرابعة، وقد تكون الزيارة عبر الأسلاك.. وقد تكون 5 دقائق أو ربع ساعة فى أوقات الشدة، وقد تكون ساعتين أو ثلاثا فى أوقات السعة، وقد يعاملن معاملة سيئة فى التفتيش أو الدخول وتمنع أجزاء كبيرة من الزيارة فى أوقات الشدة أو يعاملن معاملة كريمة فى أوقات الرخاء.. وقد لا يجدن مكانا خارج السجن للراحة أو النوم أو الاسترخاء، فينام الأطفال على الأرض أو على أرجل الأمهات، ويغشى النعاس النساء والرجال وهن جالسات 5 ساعات خارج السجن، وقد لا يجدن مكانا يحميهن من حر الشمس أو برد الشتاء، حتى تم بناء استراحة للزوار أمام ليمان طرة، ثم توالى ذلك فى السجون الأخرى، ما أشق رحلة الزيارات ذهابا ًوإيابا، وما أكثر ما ردت الأسر خاوية الوفاض بعد رفض السجن الزيارة بسبب أو لآخر.
لقد عاشت زوجتى حياة صعبة ورغم ذلك لم تضجر من شظف الحياة ولم تسنجد بأحد من أسرتها أو أسرتى، لم تقل يوما لأسرتى أننى أحتاج شيئا، وذلك لأسرتها أيضا حتى إنها مرضت مرضا ًشديدا ًيوما، ولم تجد ما لن تحضر به العلاج ولم يكن فى البيت أى شىء فباعت خاتما ذهبيا ً كان معها لتشترى به العلاج والطعام، وكانت تمر بها أيام لا تستطيع أن تعطى درسا خصوصيا لأبنائها، أو أن تحشى أسنانهم عند طبيب خاص، فكانت تقف بهم فى طابور طويل فى المستشفيات العامة، حيث كل صنوف الذل والهوان، ولم تقل لى يوما أنها تحتاج لشىء أو أنها فى ضيق أو فى كرب حتى لا تضيف إلى هم السجن هما آخر.. كانت دائما تقول لى، نحن بخير وكل شىء على ما يرام حينما تأتى إلى زيارتى.
كان ابنى الأكبر هيثم هو العون الأكبر لها بعد الله فى قضاء حاجاتها وكانت نشأته فى هذه الظروف الصعبة صاقلة لشخصيته وصاهرة لها فى بوتقة الجد والرجولة.. حتى أصبح أكثر من أشقائه صلة للرحم وفهما للحياة وشعورا بالمسؤولية.
إننى أذكر يوم زواجنا وقد مضى عليه أكثر من عشرين عاما، ووقتها كنا لا نملك من حطام الدنيا شيئا وكان الأمل خافتا فى الخروج من السجن.. ثم وسع الله علينا ورزقنا من فضله فأشعر أن كل ما أعطانا الله إياه من شقة جميلة أو راحة بال، عيادة بسيطة فى حى شعبى هى جوائز السماء لهذه الزوجة الكريمة التى كانت تقتضى أثر زوجة سيدنا إسماعيل الراضية التى رضيت عن ربها وزوجها وحياتها وبيتها، حينما سألها سيدنا إبراهيم عليه السلام عن حياتها وهى لا تعرفه. فالرضا هو سر الأسرار فى الحياة السعيدة.. فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط، فتحية لزوجتى الكريمة وإلى كل زوجة بذلت وأعطت وضحت ورضيت بما قسمه الله لها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة