صعد الخطيب درجات المنبر العتيق بالجامع الأزهر، ولم تمض لحظات حتى بدأ خطبته بحمد الله والتذكير بتقواه، ثم شرع يلهب وجدان الحضور ببليغ لسانه ووافر حجته، فى خطبة تاريخية أبرز فيها فظائع الحملة الفرنسية، ودعا الناس للثورة عليها، وما إن نزل عن منبره حتى حمله طلبته على الأعناق، وخرجت العمائم البيضاء تتقدم الحشود والمسيرات التى تجوب شوارع المحروسة منددة بالاحتلال، لتنطلق شرارة ثورة القاهرة الأولى، تتلوها الثانية.
وتمر قرون، وتتغير أشكال وأحوال، ويظل الصادعون بالحق على طريق أسلافهم، وليقوم ذلك الإمام بما قام به الأولون، ويجهر على منبره بكلمة حق يخرج بعدها من بيت مولاه محمولا على الأعناق، ولتلتقى الحشود والمسيرات من باقى مساجد مصر، لتسطر بهتافات العدالة والكرامة والحرية أحداث جمعة 28 يناير.
هذه النماذج دوما كانت محل احترام وتقدير، ورغم أنه كان هناك من يخالفهم دائما من علماء آخرين ارتأوا فى ما يحدث فتناً أمروا الخلق باعتزالها؛ إلا أن أحدا لم يقل لماذا يتحدثون برأيهم فى أمور الدنيا والسياسة، وإن هذا مجرد رأى لا يحق لهم عرضه على المنابر. فجأة؛ حين تعارضت المصالح، وتضاربت الآراء؛ تحول الإعجاب إلى نقمة، والتقدير إلى استهجان، وعُدت النصيحة تدخلا فى السياسة، وطالبهم المستحسنون سابقا بالسكوت حاليا، بل تطور الأمر إلى الحث على التطاول، والانتقال من النقاش إلى الامتهان، ومن مقارعة الحجة بالحجة إلى المنع بالقوة، دون نظر لحرمة مكان، أو تعظيم شعيرة، أو مقام عالم أو حامل قرآن، فيما عرف بحملة «نزله من على المنبر».
إن ما حدث فى الجمعة الماضية، وما سبقه من حملات تدعو المصلين لإنزال الإمام إن هو تحدث برأيه فى الدستور، هو أمر فى منتهى الخطورة، وينذر بمرحلة جديدة ينتقل فيها الصراع النخبوى إلى بيوت الله، وتنتقل فيها العلمانية من الشاشات إلى الشعائر، لتفرغ المسجد من دوره التاريخى فى التوعية والنصح للأمة، وتجعله مكانا منعزلا بعيدا عن هموم الناس وواقعهم.
لقد كان للرأى مكان فى كل أحقاب التاريخ الإسلامى، بل عُرفت طائفة من الفقهاء بأهل الرأى، ولم يقل أحد إنه ليس من حقهم بيان حجتهم، والنصح بما رأوه مصلحة للبلاد والعباد، ولقد كان من حق الأئمة لقرون طويلة أن ينصحوا ويوجهوا بما يرونه خيرا، وما انفك الأئمة عن الصدع بما يدينون به لربهم، وينصحون لأمتهم فى أمور دينهم ودنياهم دون أن يقال هم فى السياسة يتدخلون أو بالدين يتاجرون، بل كان يقال عنهم حينئذ علماء عاملون مجاهدون، ومناضلون بكلمة الحق صدّاعون. ومن المعلوم أن رأى العالم فى أمر اجتهادى معاصر ليس ملزما أو مقدسا، والكل يدرك هذا جيدًا، ولا يجرؤ من اشتم رائحة العلم أن يدعى قدسية لقوله، ولو حدث ذلك فإنه يقينا لن يلقى من الناس أدنى قبول، لكن نفى القداسة لا يقتضى الحجر على الرأى وليس معناه نفى الأدب والاحترام، ولا انتهاك حرمات وشعائر تعظيمها من تقوى القلوب.
وبخلاف ما يقع فيه أهل تلك الدعوات من لغو فى الجمعات، وإفساد للصلوات، فالسؤال هو: من أين جاءوا بتلك السنة السيئة، ومنذ متى يُنزل الأئمة من على منابرهم فى بلادنا أو يعتدى عليهم بقول أو فعل؟؟ وما الدليل على ذلك المنع من الاجتهاد والنصح فى كتاب أو سنة؟
ولنفترض جدلا أن إماما أخطأ، فهل إثارة الهرج وتعطيل الفريضة وامتهان المسجد هى الحل، أم يكون النصح الهادئ، والنقاش الراقى، أو حتى الشكوى للوزارة المشرفة؛ هو السبيل السليم والشرعى عند الاختلاف مع الخطيب؟
إن اجتهاد العالم ورأيه مقدر، ومقامه لابد أن يحفظ دائما وليس فقط حين يوافق الهوى دون إفراط أو تفريط، وانتزاعه من منبره أو امتهانه بتلك الصورة ليس مجرد إهانة لشخصه، ولكنها سنة سيئة وطريقة همجية لن تبقى للمساجد حرمة، وستنقلنا من عصر ترهيب أمن الدولة، لعصر ترهيب أمن الرأى والفكرة، وستنشئ أجيالا لا توقر كبيرا ولا تحفظ لعالم قدره، ولئن صار الحال إلى ذلك؛ فقل على مصر السلام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة