فى 10 نوفمبر الماضى، كتبت فى هذا المكان مقالا بعنوان «سقوط الغريانى» قلت فيه إن سيادة المستشار حسام الغريانى الذى كنا نعده شيخا من شيوخ القضاء البارزين، ولسان الحق وسط ظلمات مبارك وظلاميته، سقط فى فخ السلطة، فكان سقوطه مدويا. وحاكمت الغريانى بنفس «معياره» مشيرا إلى حكمه الشهير بإبطال انتخابات مجلس الشعب فى العام 2003 بناء على اشتراك أعضاء النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة فى الإشراف على هذه الانتخابات، وهو ما اعتبره «سابقاً» إخلالاً بمبدأ الإشراف القضائى على الانتخابات، لأن أعضاء النيابة الإدارية و«قضايا الدولة» موظفون فى وزارة العدل التى تتبع الجهاز الإدارى للدولة ولا يتمتعون بالاستقلال، وهو الحكم الذى صفق له جميع الشرفاء، مكللا الغريانى بوشاح البطولة، لكن تدور الأيام، وتأتى التجربة، ويهل يناير عاصفا ببعض رموز الدولة القديمة، فيتوج الغريانى على رأس السلطة القضائية رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، وتحت إشرافه تقام انتخابات مجلس العشب 2011، وانتخابات مجلس الشورى 2011، وانتخابات الرئاسة 2012، فتمر الانتخابات بمباركة المجلس الأعلى للقضاء الذى يرأسه ويسمح باشتراك أعضاء النيابة الإدارية، وقضايا الدولة فى الإشراف عليها، دون أن يشعر بأنه يخالف نفسه ويقر بما رفضه، ودون أن يشعر بالخجل أو يتوارى فى صفحات الخزى.
هذا ما قلته قبل عشرة أيام من إجراء الاستفتاء على الدستور المشبوه الذى طبخه الغريانى بليل، ففاحت رائحته حتى أزكمت الأنوف. تذكرت هذا المقال وأنا أرى صورة السيد الغريانى وهو يدلى بصوته فى صندوق الاقتراع، فقلت «يا الله» ماذا تفعل السلطة فى الإنسان لكى يقبل بما كان يأباه، يرضى بما كان يعتبره «معيرة»، فها هو الغريانى الذى كان يتخذ من أعضاء هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية موقفا معاديا معتبرا إياهم مفتقدين الاستقلال والحيادية، يقف أمامهم صاغرا، يسلم إليهم بطاقته الشخصية، ليتسلم بطاقة الاقتراع، ويوقع على سجلات الاستفتاء، ثم يأمره القاضى بوضع إصبعه فى الحبر الفسفورى فيضعه، ثم يمشى مستأمنا إياه على صوته ومفترضا فيه الحياد والاستقلالية، ولا يعنى هذا أنى أتحامل على أعضاء هاتين الهيئتين القضائيتين، وأنتقص من حقهما، لكنى فقط أوضح التناقض الذى غرق فيه سيادة المستشار، وأتعجب من نصاعة حكمة الله فى إسقاط الأقنعة.
بعد شهر من كتابتى المقال أثار الدكتور أحمد البرعى هذه القضية مع الإعلامى الكبير عماد الدين أديب فى حضور الدكتور معتز بالله عبدالفتاح، وذلك بعد إجراء المرحلة الأولى من الاستفتاء، فكان لتلك الحلقة حضور طاغ، وردود أفعال قوية، ولعل أقواها هو ما حدث فى الحلقة ذاتها كرد فعل من الدكتور «عبدالفتاح» الذى علق على إثارة البرعى القضية بالآية القرآنية «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون»، مطالبا بالتحقيق فى هذه القضية، ومعلنا صدمته من أن يكون أحد المحترمين يقول كلاما أيام مبارك ثم يبدله فى أيام الإخوان، فقلت: الحمد لله الذى جعل للحق ألسنة تبرزه وتؤكده.
بهذه المناسبة أشير هنا إلى تدوينة كتبها المحامى عصام سلطان، نائب رئيس حزب الوسط، على صفحته بـ«الفيس بوك»، محاولا فيها أن «يغلوش» على انتفاضة وكلاء النيابة على النائب العام الذى استقال على أثرها، فقد حاول أن يشكك فى تلك الانتفاضة، مدعيا أن قادة هذه الانتفاضة أبناء لكبار القضاة، بما يوحى أن توليهم لهذه المناصب يشوبه الفساد. ومع اعترافى الكامل بأن عادة توريث القضاء عادة فاسدة يجب أن نتخلص منها، لكننى لا أعرف كيف يتغاضى سلطان عن أفرع عائلة «مكى» المنتشرة فى القضاء المصرى، وكيف يتجاهل أن سيادة وزير العدل عيّن أقاربه مساعدين له فور تسلمه المنصب، أم أن الفساد قبيح فقط حينما يكون فى صفوف الخصوم؟