لا أتمنى أن تتكرر مذبحة القضاء التى حدثت أيام الرئيس عبد الناصر سنة 1969، رغم أن ما يحدث الآن على أرض الواقع يسير فى نفس الاتجاه، وكأن الزمن قد ارتد بنا إلى الوراء، وعادت نفس حملات الهجوم والاتهامات وتهيئة الأجواء لصدام مروع لن يمحو الزمن ذكراه، كما لم يغفر لعبد الناصر خطيئته الكبرى، حين حاول إدخال قضاء مصر العريق حظيرة الطاعة، فأطلق رجاله ووسائل إعلامه يشوهون صورة القضاة ويكيلون لهم الاتهامات، ويندسون كالجواسيس فى صفوفهم لكتابة التقارير الكيدية التى تفيض حقداً وكراهية، وانتهى الصدام بمذبحة أدت إلى عزل 200 قاضٍ من خيرة قضاة مصر، وظلت وصمة عار وسبة فى جبين النظام، إلى أن تولى الرئيس السادات الحكم ورد للقضاة اعتبارهم وأزال آثار العدوان الغاشم.
لا أتمنى أن تتكرر مذبحة القضاء ولكن الأجواء الحالية تنذر بالخطر، وشبح الهجوم على القضاة الذى حدث أيام عبد الناصر يتكرر اليوم، ونفس عبارة "الثورة المضادة" التى استخدمها نظام عبد الناصر للتنكيل بالقضاة هى التى يجرى إشهارها ضد القضاة الآن، ولو عدنا لصحافة النظام فى ذلك الوقت سنجد تصريحات المسئولين صورة طبق الأصل مما نسمعه اليوم، وتتهم النيابة العامة بأنها تقدم القضايا إلى المحاكم ناقصة الأدلة، مما يؤدى إلى حصول المتهمين على البراءة، وأُحيلت القضايا إلى المحاكم الاستثنائية، التى دهست القانون تحت الأقدام وضربت بالعدالة عرض الحائط، وأصدرت أحكاماً ظالمة تُرضى مشيئة الحاكم وتُلبى رغبته فى الانتقام وتصفية الحسابات.
لا أتمنى أن تتكرر مذبحة القضاء وأتمنى أن ينأى الرئيس مرسى وقادة الإخوان وحزب الحرية والعدالة عن الهجوم على القضاة، واستعداء الرأى العام وتأليب الجماهير ضدهم، فنفس الأساليب تم استخدامها فى مذبحة الستينيات، وقاد حملات التحريض "على صبرى" أحد أركان النظام وكتب خمسة مقالات فى صحيفة الجمهورية، تتهم بعض القضاة بأنهم من بقايا الإقطاع والرأسمالية البغيضة، وعبارات أخرى مماثلة لـ "إعادة إنتاج النظام السابق" التى تستخدم الآن"، وكان الهدف هو إدخال القضاة الاتحاد الاشتراكى العربى، وتم استدعاء المستشار العظيم ممتاز نصار، لتكليفه برئاسة أمانة القضاء بالحزب، فرفض بشدة وقال عبارته الشهيرة "القضاء ملك للشعب وليس ملكا لحزب"، وتصدر اسمه قوائم التطهير.
لا أتمنى أن تتكرر مذبحة القضاء، فلن تترسخ دعائم دولة القانون إلا بالقضاء الحر المستقل الذى يضع على عينيه عصابة سوداء ولا يعرف فى الحق لومة لائم، القضاء الذى يرتفع فوق الصغائر وينأى بنفسه عن الصراعات السياسية والمعترك الهزلى الذى يحدث الآن، القضاء الذى يصدر أحكامه من فوق مقامه العالى، بعيدا عن إرهاب الحصار وصيحات الجماهير الغاضبة أمام المحاكم، القضاء الموحد البعيد عن التسييس والاختراقات والتفرقة والتشرذم والتلون.. وإذا لم يتم إنقاذ القضاء وإبعاده عن المهزلة السياسية التى تعيشها البلاد، فالوطن كله سيدفع ثمناً فادحاً، وسيعود إلينا من جديد نفس البلطجية الذين اعتدوا على السنهورى باشا فى مجلس الدولة، سيعودون بصور وأشكال مختلفة وفى أيديهم السيف والكرباج.
لا أتمنى أن تتكرر مذبحة القضاء، ولا أن تعود أجواء الخوف والرهبة والسجون والمعتقلات، ولا أن نستحضر تجارب الماضى لتحكم قبضتها على الحاضر والمستقبل، ولا أن يفعل الرئيس مرسى بالقضاة مثلما فعل عبد الناصر.. فالتاريخ لا يرحم وإن طال الزمن.