لدى يقين راسخ بأن مصر أكبر من أى فصيل سياسى أو أى تيار فكرى مهما علا صوته أو قويت شوكته، فالعثمانيون لم يقدروا على أن يجعلوا مصر عثمانية، ولم ينجحوا بعد أن جرفوا أرضها ونهبوا كواردها وأرهقوا شعبها فى جعلها تابعة لهم أو مسخا منها، ومن المفارقات العجيبة أن مصر فور أن استردت إرادتها هددت هذه الخلافة الجامعة فى عقر دارها، والمماليك أيضا لم ينجحوا فى تغيير هوية مصر أو انتماءاتها، وفشل الأيوبيون فى اقتلاع هيامنا بآل بيت رسول الله كما فشلوا فشلا ساحقا فى أن ينزعوا هيامنا بالمتصوفة العظام، والفاطميون على عمق تأثيرهم فى الحياة المصرية والعادات الموسمية لم ينجحوا فى أن يجعلوا مصر شيعية، بل على العكس من ذلك تجد على أعمالهم الفنية الزخرفية أشكالا متعددة لمكونات الثقافة المصرية ما يدل على أن مصر هى التى أثرت فيهم، أو على أقل تقدير كان التأثير والتأثر متبادلا، وقس على ذلك ما حدث مع العباسيين والأمويين وما سبقه من هجوم حضارى وثقافى كبير شنه الفرس أو الرومان أو اليونانيون، فمصر تعرف طريقها جيدا، تختار ما يناسبها فتدمجه روحها الحضارية، وتعرف ما لا يناسبها فتبعده وتنبذه.
إنها مصر الكبيرة التى تعلو عن صغائر التاريخ لتصنعه على مهل، لن يغير هويتها دستور إخوانى، ولن يسبل عليها ذلك الوهم الرجعى ستائر الجهل والبداوة، انظر مثلا إلى ما حدث فى فقه الإمام الشافعى من تغير، وإلى تلك الروح التى دبت فى أوصال عقليته بعدما أتى إلى مصر لتعرف كيف تؤثر مصر فى أصحاب العقول الجبارة، فتقنعهم بجمالها، وتأسرهم بمحبتها، انظر كذلك إلى الإمام العالم «العز ابن عبدالسلام» ورحلته الفقيهة المستنيرة فى مصر، وإلى إنتاجه الفقهى الخالد بعدما أتى إلى وادى النيل، لتعرف كيف يصطفى ذلك البلد أحباءه وخلصاءه ليكسبهم ما لديه من تجارب ويصقلهم بما يملكه من مقومات الصقل والمدنية، وانظر إلى نموذج «الخواجة عبدالقادر» الذى تكرر مئات المرات قبل أن يجعله عبدالرحيم كمال أسطورة هائمة، فقط انظر لتعرف، وتأمل لتتيقن، وقل فى سرك وعلانيتك، مصر أكبر.. مصر أكبر.
وكأنى أسمعك وأنت تسأل: مادام ذلك كذلك، فما الحاجة إذن لعنوان هذا المقال «بالدستور هيطفوا النور» وأقول لك: إن عملية إطفاء النور التى يحاول أن يقوم بها ذلك التيار السلفى الإخوانى المشترك عملية ضرورية، فعادة السارقون دوما هى إطفاء النور قبل كل عملية، ولعلنا شاهدنا مثلا حيا لهذه العادة فى محافظتى المنوفية والإسماعيلية أثناء إجراء الاقتراع على الاستفتاء الموصوف بالـ«مزور»، وعلى ذلك فما نشهده الآن ليس إلا عملية سطو مسلح على مصر وتاريخها وحضارتها وشعبها، ولعل ذلك الفيديو الشائع الآن لياسر برهامى، وهو يشرح تفاصيل السطو «بالدستور» على حرية الإبداع والصحافة والأزهر ويفاخر بما وضعه من «قيود غير مسبوقة على الفن والإبداع والحرية»، هو ما أكد هذا وجعله يقينا لا يقبل الشك، لكنى مع ذلك أجزم بأنهم سيفشلون كما فشل غيرهم، لتبقى دائما مصر أكبر، والله متم نوره ولو كره «الكارهون».
الآن يتحقق ما كنا نحذر منه من «تكويش» الجماعة على كل السلطات، فمعهم السلطة التنفيذية ممثلة فى الرئاسة، ومعهم السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس الشورى، ومعهم السلطة القضائية ممثلة فى النائب العام، ومعهم الدستور بحاله يعينهم ويقويهم، وقريبا جدا سيرى الشعب المصرى نتيجة عاجلة لوضع كل هذه السلطات فى تلك اليد الهوجاء، وقريبا أيضا، سيتأكد الشعب المصرى من زيف حملته الدعائية «بالدستور العجلة تدور» وسيعرفون أنه «بالدستور هيطفوا النور» وليس بعد الليل إلا النهار.