لم يكن يوم السبت الماضى يوما عاديا، كان يوم المرحلة الثانية من الاستفتاء المزعوم على الدستور الرجعى. قلت «لا» مثل كل من يرى أبوابا جديدة فى الدستور تنفتح على الديكتاتورية، وطريق رجعى يعود بنا إلى عصور الظلام. وظللت بقية الليل أتابع النتائج، وما يحدث فى الدوائر الانتخابية مما عرفناه جميعا من تجاوزات. فى اليوم التالى - الأحد - وأنا لم أفق بعد من دهشتى من التزوير الفاضح قرأت على «تويتر» رحيل الباحث الاقتصادى والسياسى سامر سليمان.
فى البداية لم أصدق عينى، وجدت «التويتة» من قبل الدكتورة هبة رؤوف عزت، الأستاذة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسة. إذن فالأمر حقيقى، لم أعد أرى، غشاوة الدمع عزلتنى عما حولى، تماسكت قليلا وقمت بالاتصال بالكاتبة وصديقة العمر سهير فهمى، نائب رئيس تحرير الأهرام إبدو، التى عرفت سامر معها وبين أصدقائها وتلاميذها منذ خمس عشرة سنة، وهو فى مقتبل العمر، فأكدت لى الخبر فى حزن وألم.
نزلت إلى الطريق لا أعرف ماذا أفعل، لقد افتقدت الكثير من أصدقاء العمر الجميل خلال العامين الماضيين، لكن سامر الذى قابلته آخر مرة منذ شهرين مع زوجته الوديعة مارى مراد الصحفية فى الأهرام ويكلى لم يكن يبدو عليه أى مقدمات مرض، كان هادئا كالعادة مبتسما فى رقة كالعادة. عرفت أن كل ذلك حدث فى شهر واحد تقريبا، السرطان اللعين الذى كمن ثم انفجر فجأة فى معدته وأمعائه. رحت أخاطب الله.. سامر الذى فى الأربعينيات من العمر، صاحب الدراسات الرائعة فى الاقتصاد والسياسة والحياة السياسية، سامر المحب للحياة والبشر، الذى أجمع كل من عرفه أو نعاه على قيمته الفكرية كأستاذ فى الجامعة الأمريكية، أو ككاتب فى صحيفة الشروق أو غيرها، بسمته لا تفارقنى ووجهه الهادئ. يا ربى يا أرحم الراحمين لم يكن سامر ينوى إلا الخير كما هو دائما، بأبحاثه التى كتبها، أو كان يخطط لها. ياربى كان سامر مخلصا أشد الإخلاص لثورة شبابك فى 25 يناير. يارب لا اعتراض حقا على مشيئتك، ولكنى لا أستطيع إلا أن أحزن. لم يعد يهمنى الآن الدستور ونتيجته، كل ذلك الصراع فيه قائم أو مؤجل، لكن أن تخلو الدنيا من أيقونات جمالها أمر صعب. ظللت أطلب من الله أن يساعدنى، من مقهى إلى مقهى أتنقل غير قادر على الجلوس بين أصدقائى الكبار منهم والشباب، يغلبنى الألم فأترك مكانى ويظلل الصمت الجميع.
رحم الله سامر سليمان، كان أستاذا متميزا للاقتصاد السياسى، وكان مصريا مخلصا لقيم المواطنة. قال عنه عمرو حمزاوى: لقد خسرت مصر اليوم باحثا وأكاديميا متميزا، وأكاديميا من طراز فريد، وسياسيا مستنيرا. قال عنه عماد الدين حسين وكثيرون وكثيرون: الأفضل فقط يموت شابا. قالت المحامية والناشطة راجية عمران: أجل كان هذا مصدر ألمى العظيم. وفى العزاء فى كنيسة العذراء تحدث بابا الكنيسة عن الملكوت العظيم الذى ينتظر سامر بالنور الدائم، وتحدث الصديق والمفكر الكبير نبيل عبدالفتاح بإيجاز عظيم عن قيمة سامر الفكرية والإنسانية. وتحدث أخوه الأكبر عن سامر الفنان محب آلة العود، وحبه للحياة الأسرية. وكان وجه زوجته الوديعة مارى مراد علامة استفهام كبيرة من الحيرة والألم المرير. حسرة فراق الأحباء صعبة فما بالك بالفراق مبكرا. وأمه أعطاها الله القوة لا تفتأ تعلق وحدها، غير قادرة على استيعاب الفراق. كان صغيرا، سامر كان صغيرا. وأنا جالس بين محبيه أقاوم الألم. فارقت كثيراً من الأحباء فى العامين الماضيين، لكن ألمى على سامر فاق كل ألم. كان إذا تكلم أشرقت ابتسامته بالثقة فى مستقبل أفضل، وإذا ترك المكان ظلت روحه الوادعة تملؤه، مثل الأحلام الجميلة التى تستيقظ متصورا أنها الحقيقة فلا تجدها حولك، مثل وردة تطل عليك إذا أقبل.
لقد شارك سامر فى تأسيس قسم الاقتصاد السياسى بالجامعة الأمريكية، وكانت اهتماماته عن الدولة المصرية وسياساتها الاقتصادية، وكتابه الكبير «النظام القوى والدولة الضعيفة» فى نسختيه العربية والإنجليزية، ومقالاته عن أوضاعنا بعد الثورة، ومشاركته فى فعاليتها وإيمانه بالنصر القادم لم يفارقه. ولا أجد عزاء لى أو لمحبيه إلا أن موته ربما كان إشارة إلهية بأنه اطمأن أن الثورة فى النهاية سوف تنتصر.
رحمك الله يا سامر، وأعطى الله القوة لأهل بيتك ولأصدقائك ومحبيك على الصبر، ومن يدرى ربما أراد الله أيضا أن يأخذك بعيدا عن الحرب العبثية التى فرضت على الوطن، حرب جيوش التخلف القادمة من خلف الخيام القديمة فى الصحراء، الذين لا يدرون معنى الوطن.. مؤكد أنك ذاهب إلى مكان أفضل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة