> كيف حدث هذا؟.. الذين يؤسسون دولتهم خرجوا على الناس جماعات وقبائل، ليعلنوا أنهم يعرفون مصلحتهم أكثر منهم، خرجوا بحافلات (بعضها مكيف الهواء) تحمل خلطة غريبة من العطور واللكنات، تعاملوا مع المدن كأنها صحارى، وتحدثوا إلى المسلمين كأنهم كفار، الذين يؤسسون لدولة لا تشبه مصر تنقصهم خبرة الفلاحين والعمال والقضاة والفنانين ومقرئى القرآن العظام والدراويش وأولاد البلد، تنقصهم الابتسامات والرقة والعذوبة والفروسية والنبل وكل الصفات التى خلقت من أجل العيش معاً، ولهذا سقط الذين يؤسسون فى الفخ الذى نصبته البداهة المصرية للخارجين على قوانينها، البداهة التى لم ولن تقدر عليها رياح الصحراء الجافة المقبضة.
المصريون مبدعون وبمجمل إبداعهم رسمت مصر ملامحها وخرائطها وتنوعها وغناءها، المصريون أتقياء طيبون لا يخافون إلا الله، ويتعاملون مع الزمن كما تتعامل الأشجار معه، ويضبطون إيقاعهم إذا أحسوا بالخطر، ستجدهم أصعب من أى وقت مضى، إذا حاولت (أنت أو غيرك) «أن تأخذهم فى دوكة»، خصوصاً بعد ثورتهم، لأنك لو فعلت ذلك ستحرمهم من ملامحهم وطفولتهم وحريتهم، ستحاصر الارتجال الذى لم يقدر فاسد أو مستبد على مر التاريخ على كبح جماحه، والذين يؤسسون -أو يعتقدون ذلك- والذين ظنوا أنهم «اتكاتروا» على الثورة والثوار «فاهمين غلط».
> فى عز البلطجة أيام الثورة وما تلاها من حظر تجول وخلافه، كانت وسط المدينة مدينة آمنة، تستمتع ـكما تفعل عادةـ وأنت تستقبل الصباح فى شوارعها، وأنت تختصر طريقا لتضرب شوية فول على عربة فى الطرق الجانبية، كنت تعرف عدوك وتعرف مكانه، كان عدوا تافها يأخذ أجرا مقابل خسته، وربما يعبر كل واحد لخصمه بالنظرات وعلى الماشى، وكان الناس يتصادقون بعد الجملة الأولى، ويستأنفون الحوار كأنهم أقارب التقوا مصادفة فى ميدان عام، الأشباح لم يكن لها وجود لأن نبل المقصد كان يطيح بالكوابيس، الأشباح عرفت طريقها، بدليل أن الناس قبل الإعلان «اللى مش دستورى» لم تعد تتصادق بالسهولة التى أشعلت الثورة، ولكن منذ عشرة أيام عادت السكينة إلى ميادين الثورة وخسرت الأشباح، وظهر كثيرون معظمهم كان متردداً، وعندما اكتشفوا أن ميدان التحرير ليس مكانا يسقط أنظمة ودولاً وأفكاراً، نزل، يريد أن يكفر عن تأخره عن العزف والمباغتة واستنشاق رائحة الحرية والغاز، هؤلاء نزلوا فى مليونيتى الأسبوع الماضى (الثلاثاء والجمعة)، وكان أداؤهم جميلاً، وبدون أن يتحدث أحد إلى أحد، أكد الجميع أن الثورة مستمرة.
> الأهلى صاحب الشعبية الحقيقية فى مصر، والذى لم يتم شحن جمهوره إلى المدرجات فى أتوبيسات، والذى يدفع محبوه ثمن التذاكر من جيوبهم، ولا يرفعون أعلام القاعدة والسعودية وحماس، هذا النادى صاحب التاريخ الحقيقى، لم يفكر ولا مرة فى تاريخه، أن يغير قوانين لعبة كرة القدم.
> الصورة الجميلة التى رسمها الشهداء لمصر الثورة لن يتم محوها بالسهولة التى يتخيلها الاستعمار الجديد، لأن الله حق، ولأن الشباب الذى ألهم البشرية اعتبر المستقبل خياراً استراتيجياً، ويخاف على مصر أكثر من الذين يتحدثون باسمها، ويعرف أن إسرائيل وأمريكا وأذنابهم فى الداخل يحاولون تفريغ مصر من مصريتها.. ولكن هيهات.