عادة السماء أن تمطر، وعادة الأرض أن تنبت، وعادة هذا البلد أن يباغتنا كل حين بأحد أولاده الأفذاذ، تسأل نفسك: من هؤلاء؟ وأين كانوا؟ ومن أين أتوا؟ وكيف تشكلوا؟ وكيف أعلنوا عن وجودهم؟ لكنك سرعان ما ترد على نفسك مبتسما: هذه هى مصر.
من هؤلاء الأفذاذ الذين باغتونى مؤخرا صوت صارخ فى البرية اسمه على طالباب، أدمنت الاستماع إليه برغم عدم ميلى إلى أغانى الراب ولا تفضيلى لها، لكنه أجبرنى على الاندهاش الذى أعتبره أعلى مراتب الفن وأسماها، فمعنى الإبداع هو الخلق على غير مثال، وأول علامات هذا الخلق هو أن يفاجئك العمل الإبداعى بهذه السخونة الربانية وهذا التدفق اللامحدود، وهذه الرؤية الحادة الواضحة الجلية، وهذا ما تجده فى كل أغانى «طالباب» التى لا أعرف لها كاتبا، لكنى أكاد أجزم بأنه هو كاتبها لما تحمله من بصمات رؤيوية حادة يصعب أن يقتنع بها أو يتمثلها غيره.
مثله مثل أغلب شباب جيله الثورى عرفته عن طريق موقع «اليوتيوب» لكنى أعتقد أنه من أنصعهم موهبة ومن أكثرهم وضوحا ومن أكملهم رؤية، فأغنياته التى لا تتعدى أصابع اليدين جاءت كلها لتعبر عن حيرة حقيقية وألم خاص يعيشه الإنسان الموجوع بوطنه والمعاصر لمشكلاته بأبعادها الواقعية الصارمة وجذورها الوجودية المتألمة، ففى أغنياته المدهشة يحرص طالباب على تأطير رسالته الفنية بوضع صوت خارجى كتيمة أساسية يخرج منها ويعود إليها، لتجد صوت أحمد زكى فى مرافعته فى فيلم «ضد الحكومة»، وفى أغنية أخرى يأتى بصوت أم كلثوم، ومرة ثالثة يأتى بصوت صلاح جاهين، فبالإضافة إلى هذا الجلال الذى تنثره تلك المقولات المقطوعة من سياقها لتظهر كما لو كانت أصواتا أبدية سرمدية خالدة، يساهم صوت زكى وجاهين وأم كلثوم فى عمل حوارية جانبية بين ذلك الصوت الفتى وآبائه الفنانين الذين ربما يكونون قد عبروا عن نفس مشكلات الابن أو ربما يكونون قد تسببوا فيها.
تتعدد أغانى طالباب، لكنه فى كل أغنية يحافظ على نصاعة معجمه الغنائى، لا يتصنع أدبا زائفا، ولا ينمق مقولات أو مفاهيم، تجد عنده معجم الشقاء اليسارى، كما تستطيع أن تلمح آثارا لأعمال عمالقة التصوف الإسلامى، ساخرا من ثقافة العالم الاستهلاكى وسعادته الزائفة، لا يخجل من فقره أو جوعه أو من وصف العفن أو من اقتراف الذنب، ولا يحترز عندما يبشر بثورة «تقول ما تخلى» مضمخا أغنياته بهتافات الثائرين، لاعنا تآمر العسكر ووقاحة الاتجار بالدين، يقول «كنز كنوزك يا عاشق القصور.. املا جيوبك يا دايم الفجور.. ابنى كمبوندات وعلى كل سور.. خيركم مش هيصب.. والصبر مش هيطول.. ملك المصانع للى بيعرق فى المصانع.. ملك الأراضى للى بيعتب واللى زارع.. أصحو يا طلاب بكرة تقوم ما تخلى.. العروق بارود والنظام طفيلى».
يصرخ «طالباب» صرخة العدم، لاعنا من وضعوه على هامش الحياة واحتفظوا لأنفسهم بمتنها، لكنه يبدو واثقا من أن العدم لا يعنى الفناء، ويصرح بذلك فى بداية أغنيته الفتانة «الكمال» والتى استعان فيها بصوت أمل دنقل «لماذا يتابعنى أينما صرت صوت الكمان»، ويقول طالباب «إن كنت عدما فالعدم ليس معدوم، العدم هو مقابل الوجود كالظلام فى مواجهة النور والمرآة فى مواجهة الشمس» ليصنع بهذه الأغنية ما يشبه الملحمة الغنائية الذاتية الواقعية الفلسفية المهشمة، لكنه لا يكتفى بتهشمها فحسب، بل يلقيها فى وجهنا لنتذوق معنا قسوة الهامش المتهشم، ونعرف كم إجرامنا فى حق هذا الجيل الذى أوشك على اليأس، كضرير يلوح فى الفضاء متخبطا، متعمدا أن يصفعنا على وجوهنا المتبلدة لتفزع عنها غفوتنا، تشم فى ثنايا كلماته رائحة الخوف النفاذة، ويا ويلنا من ضربة الخائف.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة