فى حافلة تزدحم بمجموعة متباينة من الأشخاص من مختلف الجنسيات، والأعراق، والألوان، كانت رحلة عودتى إلى مخيمات مِنى، بعد أداء طواف الإفاضة، وسعى الحج منذ عدة أعوام. جاء مجلسى فى تلك الحافلة إلى جوار مجموعة من الحجاج الصينيين، وحاج نيجيرى، وآخر عراقى. ظل الأخوة الصينيون طوال الطريق يتكلمون معى فى حماسة بالغة، ويحاولون بإصرار عجيب إفهامى شيئا ما لم أدرك ماهيته إلى اليوم!! وأنا أحاول إقناعهم دون جدوى أنى لا أفقه حرفًا من لغتهم، بينما يُلح علينا «التبَّاع» اليمنى كى نساعده فى إفهامهم قيمة الأجرة التى حاولنا جاهدين أنا والعراقى والنيجيرى بيانها لهم بلا فائدة، استمر الحوار المحتدم، والصياح المتبادل لأكثر من ساعتين حتى وصلنا إلى مِنى، ولم يفهم أى منا الآخر. يومها تذكرت تلك المقولة العبقرية التى تُذكر حين يعجز كل طرف عن فهم الآخر، فيُطلق على حوارهم «حوار الطرشان»، تلك الصورة الهزلية لمجموعة من الصُم الذين يكلم كل منهم الآخر بحماسة شديدة تبدو أماراتها على قسماتهم، وتدفع كلا منهم للصياح بأعلى صوت ممكن فى أذن محاوره، الذى لا تغادر اللامبالاة وجهه، حتى إذا جاء دوره ليتكلم، صاح بحماسة لا تقل عن حماسة الأول، الذى تنتقل إليه على الفور حالة اللامبالاة إياها، وهو معذور، فإنه ببساطة لا يسمع!!
والحقيقة أنه لا يشترط أن يكون الصمم، أو اختلاف اللغات هو حال المتحاورين، لكى يجافيهم التواصل، ويغادرهم التفاهم، فمجرد غياب المشتركات الحوارية، وتباين أبجديات النقاش، تُعد أسبابًا كافية لتحويل الحوار إلى حوار طرشان. للأسف، أعتقد أن هذا ما وصل إليه الحال فى بلادنا، رغم أننا أبناء وطن واحد، نتحدث لغة واحدة، وبيننا من المشتركات الشىء الكثير. لقد بات من الواضح لكل ذى لبٍ أن هناك مجموعة لا بأس بها من العوائق، والمتاريس لدى كل فصيل فى هذا الوطن، تجعل حواره مع الفصيل الآخر ينتهى إلى طريق مسدود. فما بين اتهامات مسبقة، وتعميم لأخطاء وخطايا كل فصيل وأفراده على جميع أتباعه، وبين نظرة فوقية واستعلاء كل طائفة على الأخرى، يتمزق الحوار، وتتلاشى الثقة، وتتبدد الألفة، ومن ثمَّ نصل إلى تلك النقطة الحرجة التى صرنا إليها. التعميم على سبيل المثال يُعد من أهم المشاكل، التى يعانى منها الحوار هذه الأيام، وتؤدى إلى قطع الطريق عليه، ربما قبل أن يبدأ. مشكلة تلمسها حينما تقرأ أو تسمع كلمة «أنتم»، أنتم فعلتم، أنتم قلتم، أنتم قصرتم..إلخ. تلمسها حين تجد المحاور يتكلم مع مخالفه بصيغة الجمع، ويحمله كل خطأ أو هفوة صدرت من أى فرد ممن ينتهج فكره أو ينتمى لفصيله. وبذلك يصير كل مخالف عميلاً خائنا مستقويًا بالخارج، أو متآمرا معاديًا للدين وهكذا، و كأن المبدأ القرآنى المبهر «ولا تزر وازرة وزر أخرى» صار ذكرى لدى جل المتحاورين!
على جانب آخر تلحظ نظرة فوقية واستعلاء على المخالف الذى هو دائما «خروف»، يسير فى القطيع، ويأتمر بأوامر شيخه أو مرشده. هذه النظرة الاستعلائية المُهينة، تجعل العمل الجماعى المرتب، الذى ينتظم أفراده خلف قيادة يرتضونها، هو مجرد قطيع، وتصف أفراده بالخرفان. بينما يتناسى من يتهكمون بتلك الأوصاف، أن أغلبهم ينتظمون فى أحزاب، أو تيارات، وحركات، تتخذ قرارات، وتلقى بيانات، ويلقى قادتها بتصريحات، وتغريدات، دون كبير اهتمام بمشاورتهم، أو استفتائهم، قبل كل قرار، أو تصريح ما أن يصدر، حتى ينبروا لتبريره، والتهليل له، والتجاوز عن زلاته، مهما بلغت شذوذاتها، ومصادمتها للمنطق، والعجيب أن يقبل المتهكمون أن يدافعوا عن التزامهم الحزبى، واتباعهم السياسى، بينما يتهمون غيرهم بأنهم خرفان! لا شك أن كل فصيل يحمل فى صفوفه، من يوقعون «على بياض» لقادتهم السياسيين، أو الروحيين، ليس لأنهم خراف، ولكن ببساطة لأنه ليس كل منهم لديه القدرة على اتخاذ القرار الفردى، أو الإدراك، والوعى السياسى، الذى يكفيه ليكون رأسًا يُقتدى به، لذا فهو يُسلم القياد لمن يراهم أهلا لثقته، وهذا أمر مطَّرد لا يخلو منه زمان، ولا مكان، هذا الاتباع الأعمى وإن كان مذمومًا إذا أُطلق، فإن الحل فيه ليس التنابز، والتراشق والتعميم، بل يكمن حله فى التوعية، والتربية التى تُنمى المدارك على المدى البعيد، لكن إلى هذا الحين، سيبقى هؤلاء وأولئك مصريين، لديهم الحق أن يتكلموا، وأن يرفضوا شيئًا أو يقبلوه، وليس لأحد أن ينفى عنهم مصريتهم، أو يصادر حقهم، أو يحقرهم فى حوارات لا أجد فروقًا جوهرية بينها وبين.. حوارات الطرشان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة