يعود الصراع على هوية مصر فى الواقع إلى ما نطلق عليه «دول ما بعد الاستعمار»، حيث جاءت دول متسلحة بدعم نخب ليبرالية وثقافية متعلمة فى الغرب ومتمردة على حضارتها وثقافتها، ومعتقدة أن نهوض العالم الإسلامى الذى هزم أمام الغرب لن يكون إلا باتباع نفس طريقه.. علينا أن نتذكر هنا معركة كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» وكتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، كما علينا أن نتذكر أسماء مثل الشيخ على عبدالرازق الذى كتب عام 1925 كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذى قال فيه إن الإسلام لا شأن له بالحكم، وإن دعوة النبى صلى الله عليه وسلم كانت هداية للبشر ولم تكن زعامة سياسية أو ممارسة للحكم، وأن ما فعله الخلفاء من بعده لا شأن له بالدين، وإنما هو عمل سياسى يتصل بالسياسة ولا شأن للدين به.
وفى هذا السياق كتب سلامة موسى «اليوم والغد» وفيه اعتبر مصر جزءا من أوروبا، كما كتب قاسم أمين كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، كما ظهرت دعوات عديدة للنيل من اللغة العربية ومن الأزهر ومن الشريعة وغيرها، وفى الواقع فقد كان الاستعمار والاستشراق يدعم تلك التوجهات.
لأول مرة يواجه الإسلاميون موقفا صعبا هو انهيار مؤسسة الخلافة، وهى المؤسسة الرسمية التى تعبر عن الدولة الإسلامية، وهنا ظهرت دعوات لمحاولة ملء الفراغ الذى تركته دولة الخلافة فظهرت أنصار السنة والجمعية الشرعية ثم ظهر الإخوان المسلمون.
الفترة الملكية فى مصر وهى الفترة الليبرالية «1923-1952م» كانت علمانية تفصل بين الدين والدولة وكان النظام السياسى والاجتماعى والقانونى يعبر عن النمط الغربى أكثر منه تعبيرا عن الإسلام، وفى الفترة القومية التى ظهر فيها نظام العسكر وعبدالناصر كان هناك علمانية بمذاق اشتراكى أيضا عبر عنها الميثاق الوطنى كما قدمه جمال عبدالناصر.. إذن هناك خط للصراع على هوية مصر منذ مطلع القرن الماضى يختلط فيه السياسى بالدينى، وبعد ثورة يناير حانت لحظة استعادة تلك الهوية لتكون إسلامية من جانب الإسلاميين، فحلم الخلافة والدولة الإسلامية هو حلم يستعيد للإسلاميين تلك الأراضى التى فقدوها بقوة السلاح حينا وبقوة السجن حينا وبقوة الاستعمار حينا آخر.
مشهد الدعاة السلفيين والإخوان المسلمين فى البرلمان بمجلسيه ثم مشهد الرئيس الإخوانى وهو يجلس فى قصر الرئاسة، ثم مليونيات الإسلاميين فى التحرير وفى جامعة القاهرة وغيرها أشعر القوى الليبرالية والعلمانية والمدنية بأن ذنبا سيظل يلاحقها إلى أبد الآبدين وهو ترك السلطة للإسلاميين.
هذا هو ما جعل الليبراليين والكنائس والعلمانيين ينسحبون من المشاركة فى وثيقة الدستور التى يرونها محملة بروح إسلامية لا يمكن قبولها، ومن هنا كان الإسراع من إعلان الانسحاب فورا، لا بد من القول هنا إن الإسلاميين فى أدائهم السياسى لم يكونوا على قدر الشعور بالمسؤولية تجاه أوطان وناس وجماعات تخشى من مجىء الإسلاميين إلى السلطة.
وهنا فإن ما بعد ثورة 25 يناير هو فى الحقيقة صراع أعمق مما نراه حول قضايا تتصل بهوية مصر وبالعلاقة بين الدين والدولة وبالعلاقة بين شركاء الثورة وبالعلاقة مع غير المسلمين وبالعلاقة مع المرأة، وبالعلاقة مع الشريعة ومعناها، هناك قضايا ثقافية عميقة لم يجر حولها حوار جاد بين القوى والطبقات الاجتماعية والسياسية، وظل الحوار سياسيا، وفى الحقيقة هناك فجوة بين السياسة والثقافة والثورة لا بد من تجسيرها لتحقيق عبور آمن لمصر نحو نظام سياسى يتكافأ مع دماء شهداء ثورة 25 يناير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة