فى تصريح منشور منذ أيام فى جريدة الأهرام صرح الدكتور محمود غزلان المتحدث الرسمى باسم جماعة الإخوان المسلمين بأن الخلافة هى حلم الإخوان الذى لن يتنازلوا عنه مهما طال بهم الزمن، وأنا أصدق ما صرح به الرجل جملة وتفصيلا، وتلك هى المشكلة، أو بتعبير أدق تلك هى المصيبة التى قد ابتلينا بها كشعب، بأن يكون هدف الفصيل السياسى الأوسع انتشارا حتى الآن هو الفصيل الذى يود أن يعود بنا إلى زمان غير الزمان وعصور فى ذمة التاريخ نواكبها أكثر كثيرا من فضائلها، وقد استدعى هذا التصريح إلى ذهنى الحقيقة الغائبة وحكاية رجل غاب عن الحياة فى التسعينيات من القرن الماضى حين اغتالته يد الإرهاب بالتحديد عام 1992 وهو المفكر والسياسى فرج فودة.
د. فرج فودة لمن لا يعرف كان يحمل درجة دكتوراه الفلسفة فى الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس، ولكنه كان منخرطا فى الحياة السياسية والفكرية فى مصر منذ الثمانينيات وانضم إلى حزب الوفد الجديد باعتباره الحزب المعبر عن الليبرالية، ولكنه انفصل عنه عام 1984 حين تحالف الوفد مع الإخوان وأعلن أنه حزب إسلامى!
«ملحوظة هامة جدا: فى سياق ما سأورده أرجو أن تلحظ جيدا أننى حين أتحدث عن التاريخ البعيد أو القريب تبدو الأحداث وكأنها ابنة اللحظة الراهنة فهى لا تتشابه ولكنها تتطابق».
انفصل فرج فودة عن الوفد وأسس الجمعية المصرية للتنوير، وسعى إلى تكوين حزب المستقبل، حيث كان ينادى بمدنية الدولة فى مقابل جماعات إسلامية تملك الشارع وتتحدث عن الدولة الدينية، كان فرج فودة ينشر مقالاته فى جريدة الأحرار ومجلة أكتوبر وكتب العديد من الكتب التى تؤكد فكرة العلمانية، وقد تنبأ بتقسيم السودان، وهو ما حدث منذ عام بالفعل.
وكانت يد التطرف والإرهاب طويلة فى ذلك الوقت، وقد أفتى الشيخ عمر عبدالرحمن بكفر فرج فودة ووجوب قتله ومعه عدد آخر من المشايخ الذين كفروه واتهموه بالصهيونية والشيوعية وبالتمويل من الخارج، وأصدر صفوت عبدالغنى أحد أمراء الجماعة الإسلامية أمرا بقتلة فتم اغتياله وهو فى طريق خروجه من الجمعية المصرية للتنوير يوم 8 يونيو عام 1992، ومن العجب أنهم حين كانوا يحققون مع عبدالشافى أحمد قاتل فرج فودة سألوه لم قتلته قال لأنه كافر، وحين سألوه كيف عرفت أنه كافر هل قرأت كتبه قال لا فأنا لا أقرأ ولا أكتب، أى أن القاتل كان أميا.
وأعود للحقيقة الغائبة وهى عنوان أحد كتب فرج فودة الذى كان مرجعه فى مناظرة فى معرض الكتاب مع الشيخ الهضيبى والشيخ الغزالى فى ندوة بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة العلمانية»، ويقال إن هذه المناظرة هى التى حسمت أمر اغتياله.
فاسمحوا لى أن أفسح السطور والكلمات لفرج فودة الذى كتب قائلا: «هذا حديث ما كان أغنانى عنه لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة بل من منطلق الجد «...» هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر، وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو حديث فى النهاية موجز أشد الإيجاز يرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد يقترب من الإسلام ويلتصق به، أو قد يبعد عنه وينفر منه، وهو فى كل الأحوال ليس له من القداسة ما يمنع مفكرا من الاقتراب منه، وهو بالتأكيد ليس حجة على الإسلام، إنما حجة على المطالبين بالحكم بالإسلام».
تلك كانت مقتطفات من مقدمة الحقيقة الغائبة التى يحكى فيها فودة عن 1300 سنة من الحكم الذى كان يطلق عليه خلافة إسلامية، ففى كتاب من القطع الصغير لا تتعدى صفحاته 150 صفحة يقدم فودة قراءة جديدة لحكم الخلافة ليعرف منها القارئ تاريخا ربما قرأ بعضه وعرف أسماء أبطاله، لكنه لم يعرف ماذا فعلوا بالدين من أجل السياسة وكراسى الحكم. ورب قائل بأن من ينادى بالخلافة الآن يقصد أحسنها، وعلى هذا أرد بأن علينا أن نحتكم للتاريخ لنعرف أن أحسنها لم يكن إلا بنسبة %1 من %99 «...» وهؤلاء الذين نتحدث عنهم كان بعضهم صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا، وبعضهم عطل نص كعمر بن الخطاب، أو جاوز ذلك كما فعل أبوبكر فى قتاله لمسلمين ينطقون بالشهادة ويؤدون الزكاة، ولكن للمحتاج وليس للخليفة وبيت المال كما كانوا يفعلون فى زمن الرسول، وآخرين ممن عاصروه وغيرهم ممن لم يبتعدوا كثيرا عن عصره، فما بالنا الآن بعد 14 قرنا، وهؤلاء الذين يرفعون فى وجوهنا كلمة حكم الإسلام لا يريدون أن يجتهدوا أو يسمحوا لغيرهم بذلك، وفى كتب فرج فودة وغيره إعمال للعقل لا كفر حتى وإن اغتالوا كاتبه رحمه الله.
وعود على بدء.. إن الوطن ليس حلما لحكم الخلافة الذى يراودهم، فليحكمونا ولكن ليس باسم الإسلام لكن باسم السياسة، فإن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعقل لا الدروشة، والأهم من ذلك كله عليهم أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم وهى أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين.