غالبا فإن العم جلال عامر الآن يسخر من الأحياء، ومن بعض من يسيرون فى وداعه، فقد رحل ولم يمت، جلال عامر باقٍ بما تركه فى كل ركن من حكمة، سخرية تتجاوز الضحك إلى تركيز المرارة والنقد فى كبسولة تعبق العالم بروح النقد. جلال عامر ينتمى إلى مدرسة السخرية التى تختصر آلاف الأميال والتفاصيل فى جملة. لا تغريه مجرد الرغبة فى إطلاق الإفيهات. يشبه المصريين، يسخر من تصرفاتهم، دون أن يسخر منهم، كما يفعل بعض «الزعران»، يلتمس لهم العذر، ويسلخ بسخريته المدعين والمتصنعين. وتجار الشنطة فى السياسة الإعلام، ممن ربحوا الكثير من الأموال وخسروا أنفسهم. عاش ومات محاربا لا يهتم كثيرا بالحسابات، فى البنك أو مع الآخرين. لكنه ترك رصيدا من العظمة والحكمة.
كثيرون لم يتعرفوا على جلال عامر إلا فى الأعوام الأخيرة، وهو أمر كان يصيبه بالضيق، لأنه ظل أكثر من ربع قرن يكتب بنفس الإبداع. وكان هذا شعوره عندما التقينا لأول مرة منتصف التسعينيات، كان يكتب فى «الأهالى»، وساهم فى تأسيس ودعم جريدة «التجمع» فى الإسكندرية وكتب فيها أكثر مقالاته تألقا، وفى جريدة «العربى »عندما كان يشاركنى أحيانا صفحة الجورنالجية وهو صاحب مقولات كثيرة قبل وبعد ثورة يناير، تحولت أقواله إلى عبارات خالدة وحكمة شعبية فهو الذى قال: «ياريت مبارك كان ضربنا إحنا الضربة الجوية وحكم إسرائيل 30 سنة».
كان يحرر باب «مكاتيب» فى جريدة «القاهرة» وحول بريد القراء إلى أغنيات وتغريدات ساخرة، مع ما كان يكتبه من سخريات شديدة العمق والتكثيف، وكثيرا ما كنا نلتقى فى «القاهرة» لنتبادل الحكايات، وكان قادرا على الكتابة بنفس الطريقة التى يتحدث بها، وهى صفة لا تتوافر لكثير من الكتاب. وحكى لى عن أنه فشل كثيرا فى إقامة أى مشروع غير الكتابة لدرجة أن صديقا له نصحه بشراء تاكسى لتشغيله وبالفعل سلم التاكسى لعدد من السائقين وعندما سألته: كسبت من التاكسى يا عم جلال؟ رد: كتير.. بعت عليه شقة!.
استمرت «مكاتيب» التى حولها عم جلال إلى هايدبارك كبير، ثم كانت تجربته فى «البديل» والتى كانت بداية تعرف قاعدة أكبر من القراء عليه، بالرغم من أنه كان طوال الوقت متألقا، وواصل تجربته فى «الدستور» ثم «المصرى اليوم»، لكن تجربته كانت حياته التى عاشها- كما كتبها - بالصدق والسخرية. كان دائما مقاتلا، شارك فى حرب 1973، وكانت انتقاداته بميزان ذهب لرجل يفهم معنى العسكرية والبطولة وخطر السياسة على الجيوش. وأيضا كان عدوا للتفاهة والظواهر المبالغ فيها، والمدعين وراكبى الموجات. رحل بعد أن أدى واجبه وشارك فى مظاهرة أصابت قلبه بالحزن لأنه رأى «المصريين بيقتلوا بعض».. جلال دمت لنا.. لن ينفد رصيدكم أبدا.