تلك هى النهاية الدرامية المؤلمة، يموت جلال عامر وعلى خده دمعة، وهو الذى عاش ليرسم على شفاهنا البسمة، يموت الذى عاش كأنه طيف رهيف، فتأخذنا عاصفة من الحزن الموجع، يا عم جلال: تعب القلب من الانقباض كمدا، وتعب الجفن من حبس الدمعة الجارحة، وتعبت العين من إعلان هزيمتها أمام الدمع الجسور، وتعب القلم من إنشاء المراثى لآيات هذا الوطن وهى ترحل تاركة فى الروح شرخاً وجرحاً.
آية من الصفاء كنت، ونعيما من الحنان كنت، وشفاء من الآلام كنت، كنا نهجرك ونعود إليك فنجدك كما أنت دائماً هادئاً سامقاً مرهفاً وحنوناً، كسماء أحبت عيالها، فحضنتهم بسحابة، وسقتهم بمطر، وحرستهم بشهاب، كنت، وكأرض طيبة عشقت الماشين عليها، فأجرت لهم الأنهار، وطيبت لهم الثمار، ومهدت لهم الدروب كنت، ونحن عرايا، إلا من سماء تظلنا، وأرض تحملنا، فكيف لنا أن نواجه وجهنا وقد حرمته من ابتسامته برحيلك.
أطالع صورتك الأخيرة، وأنت تمشى هاتفاً: «يسقط يسقط حكم العسكر»، وكأنى أراك لأول مرة، أضحك لأنك كنت بطلاً من أبطال حرب أكتوبر، وكنت تهتف بسقوط العسكر، وكأنك ترد على من يتهموننا بعداء الجيش المصرى ويعايروننا ببطولاتهم الوهمية التى يسترزقون منها، وأقول ها هم الأبطال الحقيقيون يهتفون ضد الظلم، ويصفعون تجار الوطنية الزائفة، أدقق فى الصورة لأرى دمعتك الحانية، فأنادى الأرض التى عليها مشيت: يا أرض إسكندرية احملى دمعته بجوفك ككنز مخفى، فهذا الرجل كنزنا، بقلبه قبس من روح الوطن، وبعينيه حزن الأنبياء المخلصين، وبنبضه الموءود حكمة ودمعة وآهة، كمثال أكمل للمصرى الصبور كان، يحمل حكمته مفتخراً بأصله الطيب وجذوره العميقة، هو سندباد المعنى، صائد المفارقة، وحكيم الآلام، لا يبغضه إلا جاحد، ولا يعاديه إلا آثم، ويحبه كل من كان فى قلبه ذرة من مصر.
وكأنى أسمع صوتك وأنت تقول جملتك الأخيرة التى فقدت بعدها النطق أثناء مشاركتك فى مظاهرة الجمعة الماضية «المصريين بيقتلوا بعض» أسمعه ضعيفاً، خائفاً، واجفاً، متألماً متحسراً، ثم أتذكر تفاؤلك الدائم، وأنت تقول: مصر الآن تتألم ولكن ألمها آلام مخاض لأن مصر الآن «بتولد» إنما فى السابق كانت «بتبيض» أضحك، فتأخذنى دمعتك وأنت تقول فى حوارك مع الزميل جابر القرموطى فى برنامج مانشيت: «مصر مش دبيحة وهتكسبهم كل اللى بيتاجروا بتاريخها ودينها هتكسبهم هتكسبهم هتكسبهم»، ثم أسمع صوت أمل دنقل وهو يقول: فجأة مات! لم يحتمل قلبه سريان المخدر/ وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات/ عاد كما كان طفلاً/ سيشاركنى فى سريرى / وفى كسرة الخبز، والتبغ/ لكنه لا يشاركنى فى المرارة، والله العظيم لتكسبهم يا عم جلال.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة