سهرت ليلة كاملة أتابع على تويتر حالة الكاتب الرائع جلال عامر فى المستشفى، وجودى فى القاهرة ومشاغل صحية حالت بينى وبين أن أكون فى الإسكندرية، كانت الدهشة كبيرة مما جرى له فجأة بعد أن شاهد مظاهرة مدفوعة ولا معنى لها ضد الثورة، ومظاهرة أخرى للثوار، واشتباكات بينهما مما جعله يهتف متألما: «المصريين بيضربوا بعض»، ولم يتحمل، أين حدث ذلك؟ فى حى بحرى أو رأس التين الذى عاش فيه جلال عامر، والذى لا يزال من أجمل أحياء الإسكندرية ينسكب عليه الهواء والتاريخ، وتقبّله الأمواج وتمتد على كورنيشه العمارات الأوروبية شاهدا على تاريخ عظيم، ويمتد النخبل الملكى بين ضفتى الشارع مسلما نفسه إلى الهواء الذى لم ينقطع عطفه على المدينة منذ بنى الإسكندر الإسكندرية.
سهرت الليل حزينا أقاوم دمعى، ليس اعتراضا على قدر الله، ولكن لأنى شعرت أن العالم سيختلف إذا رحل جلال عامر، وظللت هكذا حتى انتشرت أضواء الصباح ودخلت لأنام قليلا لأنى كنت أعرف أنى لن أستطيع الاستمرارا فى النوم لوقت كاف، صحوت فى العاشرة صباحا لأجد الخبر الأليم يتصدر عناوين قناة دريم، لم أشعر أنى فى يوم جديد، أحاط بى الليل الذى بدا لى لم ينجل، واستمر معى طول النهار ولا يزال.. لماذا؟ مصر ولادة، أقول لنفسى، وفى مصر كثير من الكتاب الساخرين، أقول لنفسى، وفى النهاية هو قدر الله الذى يجعل مصر تفقد فى هذه الأيام عددا من أجمل كتابها، هل لأن جلال عامر ابن مدينتى، لا، فكلنا أبناء للوطن، لكن لأن جلال عامر كان نسيجا وحده بين الكتاب الساخرين، كان مثقفا كبيرا وخريج كلية الحقوق ثم الآداب، وظهر فى حياتنا الفكرية متأخرا، وساعدته ثقافته وخبرته كضابط سابق عاصر كل الحروب أن يكون مختلفا، الثقافة ظهرت فى كل جملة يكتبها، كل جملة هى تلخيص لكتاب أو فيلم أو لوحة فنية أو مسرحية أو قصيدة أو ديوان شعر، وموهبته لم تكن فى كونه كاتبا ساخرا فقط، ولكن تجلت فى شىء بعيد جدا على الكثيرين من الكتاب فى مصر والعالم، وهى فى استخلاص المعنى والوصول إلى الحكمة من أيسر السبل، وفى كل وقت وهذا لا يكتبه الله للكثيرين، وأيسر السبل هى التى لا يتوقعها القارئ، لذلك كانت مقالات جلال عامر وعاء للحكمة، وللحكم والأمثال التى رغم ارتباطها بحياتنا السياسية والاجتماعية فإنها تتجاوز الزمن وتكون دليلا ليس على عصر فقط، ولكن على عمق فلسفة الكاتب، وعلى عمق شهادته على هذا العصر.
لم يكن جلال عامر معارضا يستخدم الرموز والتورية لكنه كان معارضا واضحا للرئيس السابق ولنظامه، والأهم الأهم أن هذه المعارضة كانت تتجلى ليس فى صياغة مباشرة ولكن فى تعليل معاكس لما نتصور، يأتى بالمعنى من بعيد ومما لا يخطر على بالك، لكنه قريب جدا من الكاتب الموهوب، أجل.
جلال عامر لم يكن مجرد كاتب مقالات، ولكن كانت تسكنه روح الروائى والقاص، وأيضا كاتب المسرح فما يكتبه دراما تنطلق من التناقضات التى تحملها جمله التى تحمل معارف وأحداثا وليس مجرد آراء، لذلك كنا نضحك من القلب من غرابة استنتاجاته ويقينه بالحقيقة التى تبدو غائبة عنا بينما هى أمامنا لا يراها إلا كاتب موهوب مثل جلال عامر،
لذلك الآن وعبر هذا الأسبوع المضنى عزاء كامل على الفيس بوك وتويتر من أجيال الشباب الذين رأوا فيه رحاء وبصيرا وبصيرة، أضحكهم كثيرا وأضحكنا كثيرا ولم يكن الضحك ليسكتوا بل ليظلوا فى طريقهم لتحرير البلاد، طاقة الضحك موصولة بطاقة الأمل والقوة لأن جلال عامر مبدع كبير، بل لا أبالغ إذا قلت إنه أحد الحكماء الذين قل نظيرهم، وكما قلت ساعدته الفلسفة والقانون وخبرة الحياة التى كانت مع الموت، ضابط فى الجيش حضر حروبنا منذ حرب الاستنزاف يعنى حياة إلى جانب الموت، ومن ثم حين خلص جلال عامر لنا وضع الحياة أمامنا على مائدة من الفكاهة الخالدة.
الشباب الآن، وهم على حق يملؤون، تويتر والفيس بوك بجمل جلال عامر الحكيمة ورؤاه الفلسفية الناجذة وتغريداته لحياة أخرجت لنا لسانها كثيرا بينما هو كان على يقين أنها ستتغير.. أنا أدعو المسؤولين فى الإسكندرية أن يخصص شارع فى بحرى باسم جلال عامر وإذا لم يفعلوه الآن فستفعله الثورة لاحقا، شارع يصب على البحر، من يمشى فيه يصل إلى حيث وقفت كليوباترا وأنطونيو وعظماء المدينة الخالدة، من يمشى فيه يعرف أنه سيصل إلى الشاطئ الذى جرت عليه كل الأحداث التاريخية العظيمة للمدينة التى لا يزال أبناؤها حين يقفون هناك يشعرون بالثقة والفخر، هنا كان التاريخ وكانت المحبة وكان التسامح،
أما كتب جلال عامر فمن المؤكد هناك من سيعيد نشرها، لكن الأهم هو أن نجد أحدا يتشجع لصنع نتيجة سنوية أو أجندة ترتفع فى صفحتها كل يوم تغريدة لجلال عامر، سنحتاج أكثر من 365 يوما، سنحتاج إلى أكثر من سنة،
فلتكن السنوات القادمة هى سنوات تغريدات جلال عامر وحكمه الخالدة، هكذا سيستمر العالم أو الدنيا وفيها طعم البهجة التى سكبها علينا وعليها جلال عامر، وهكذا نتعزى قليلا حتى نتعود على غيابه ولن نتعود بسهولة، رحمك الله يا جلال يا بهجة الدنيا والآخرة، أجل الآخرة أيضا فلابد أن الملائكة الآن وجدوا فيك مسرة كبيرة غير ما يجدونها دائما فى البشر الآخرين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة