محبتى لصوت الشيخ مصطفى إسماعيل قديمة، وسبق أن كتبت وتحدثت عنه فى أكثر من مكان، امتنانا بفضله على، وعلى عشاق مدرسة التلاوة المصرية العفيفة، التى يسعى رأس المال النفطى إلى حصارها. كان صوته يمر على وأنا صغير مرور الكرام، وكان صوتا رفعت «الذهب» وعبد الباسط «الصافى» يسيطران على، ربما لأننى كنت أستطيع تمييزهما، أستمتع بهما، ولكنى لا أحرص على شراء تسجيلاتهما أو الجلوس مع الأصدقاء حولهما، ثم مررت بفترة «غباوة» بعدت فيها عن هذا الفن العظيم، انتهت مع صوت الشيخ مصطفى ذات ليلة ممطرة وأنا مجند سنة 1984 فى سلاح حرس الحدود. كنت عائدا من إجازة فى قريتى سيتم ترحيلى بعدها، لا تعرف إلى أين؟، جلست فى مقهى ضيق جدا فى الأنفوشى يوشك على التشطيب، وأحسست أنهم يريدون التخلص منى للالتفاف حول تسجيل «حلو» للشيخ مصطفى، لم أكن مستعدا من داخلى للسماع، ولكن حاجتى للألفة دفعتنى لطلب الجلوس مع الرجال الثلاثة الذين يجلسون إلى صاحب المقهى، الذى من الصعب أن تظهر رقته من وجهه الحاد، وادعيت أننى من عشاق الشيخ، قبلونى بفتور مهين، وأغلقوا نصف الباب «الصاج»، وراحوا يدخنون، وبدأت التلاوة «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا»، تظاهرت بالاستمتاع رغم الصوت الذى بدا لى «مقفولا»، ثم حدث ما حدث.
بعد قليل فتحت السماء، وأصبح المقهى الضيق واسعا، أحسست أننى فى عالم آخر، بعدما «سحب» صوته فى مناطق خارج كل السياقات فى «مريم»، وفوق «شواشى» مشاعرى التى لم يلمسها نغم من قبل، وراح الشيخ يبدع وكأننى مخدر تماما، وكأن أوتار صوته اختصتنى لأكتشف بداخلى حاسة جديدة بددت مخاوفى من «الترحيل»، وجعلت دراويشه الطيبين الذين أجلس بينهم كأنهم أهلى الذين أحبهم ولا أتحدث معهم، وشيئا فشيئا بدأت أحس أن الدماء تصعد إلى رأسى، وزاد من إحساسى هذا الجمهور الذى يستحسنه «على نفس المقام» داخل الكاسيت ومن صحبتى، وبدأت أحس معنى المفاجأة، وغالبا يحاول المرء منا أن يضبط صوته مع المقرئ أو المبتهل أو المغنى، ويفترض مسافات غير دقيقة فى محاولة للحاق بصوته، ففى كل آية حتى لو أعادها أفشل فى تتبعه بسبب «فتونة» خارقة وذكاء ولماحية وموهبة فطرية نقية مع علم غزير بالمقامات وصدق وإيمان عميق بما يقرأه، ثم دخل بعد ذلك فى رحاب «الحاقة» التى يختتم بها كثيرا لياليه، «الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة.. كذبت ثمود وعاد بالقارعة»، قرأها للمرة الأولى وكأنه يقول «السلام عليكم»، ثم راح يعيد فيها، وفى كل مرة يأخذ قلبى معه، يصعد ويهبط به، وفجأة أجهشت فى بكاء غزير لا أعرف سببه ولا أستطيع إيقافه، وبدأ الرجال حولى يحسون ذنبا ما تجاهى ويحاولون التخفيف عنى، وأنا فى حالة لم أستطع حتى الآن تفسيرها، ومن ساعتها وأنا مسكون بصوت هذا الرجل، وكانت «شرائطه» تدور حولنا وندور حولها، ولم يتبق عندى غير القليل من تسجيلاته النادرة بسبب كثرة «التعزيل» وتطور التكنولوجيا.
اضطررت لإعادة حكى لقائى بصوت الشيخ مصطفى بعد أن اكرمنى صديقى المخرج و«السميع» محمد حسان الأسبوع الماضى «بفلاشة 6 جيجا» تضم معظم تسجيلاته النادرة، جلست إلى الشيخ من جديد، وكأننى فى المقهى نفسه أنتظر المجهول، ولكنى فى الوقت نفسه أستعيد الليالى الواسعة التى كنا نستظل فيها بصوته مع خيرى شلبى، وحامد العويضى وإبراهيم منصور رحمة الله عليهم، ومتعة أن تستمع إلى الشيخ مصطفى وأنت مع الفنان الكبير عمار الشريعى أو أحمد فؤاد نجم، حسان قدم لى معروفا عظيما، لأنه أخرجنى من الحالة الكئيبة والغامضة التى تعيشها البلاد وكأننا جميعا على وشك «الترحيل».