هنا فى القاهرة الكبرى أنت لا تشعر بالخوف وانعدام الأمن إلا عند خروجك من المنزل، أو وجود أحد أفراد عائلتك فى الشارع ليلا، بينما هناك فى بلدتنا الصغيرة بالصعيد ستعلم أن شعورك بالأمن يختلف، لأنك ستفتقده عند أول بادرة لغروب الشمس، وستجلس فى بيتك كأحد المرابطين على الثغور، متحفزا لهذا الذى سيأتى ملثما ليسرق ثروة العمر من مواشٍ أو غلال أو حتى كومة بوص أو جرة «مِش» تخزنها لقارعات الليالى وجوع الأيام، ولو غلبك النوم فستتقلب قلقا مع أصوات الرياح، وصمت الضفادع، انتظارا للقادم المجهول، تتوكل على الله طالبا ستره وعونه، ولا تعول على مركز شرطة مهجور من الضمائر، أو خفير ليلى لا يستطيع حماية نفسه، أو عمدة مشغول بحسابات ثروته.
ستسمع فى بداية الليل وأنت فى قريتك أصواتا متقطعة من الطلقات النارية، فستتوقع أنه جارك، أو ابن عمك فى الناحية الأخرى، قد سمع صوتا أثار ريبته فى غيطان الذرة أو على حواشى غيطان القمح، وبعد أن تتوغل فى الليل، ستجد أن كل طلقة نارية تستهدف لصا أو تطارد ذئبا أو تطمئن نفس صاحبها، فتحمد الله أنك بخير، وأملاكك سليمة لأن «الحارس هو الله»، وتنظر طلعة الشمس لتعلن أن الليلة مرت بسلام.
هناك لم تتأثر الشرطة بالثورة، ولم يجرح ضابط فيها، ورغم ذلك خلع كثير منهم ملابسه الميرى وذهب إلى بيته إلى أن تهدأ الأمور، وبعد أن عادوا تغيرت إستراتيجيتهم من التعالى على الناس، إلى تجاهلهم وإهمال المشاكل الأمنية، إلى أن تتفاقم ويتساقط الضحايا ثم يتحدث الوزير ويتدخل الجيش، وبعدئذ لن تحل إلا بالجلسات العرفية، سيخبرك كل ضابط أو أمين شرطة فى الصعيد إذا طالبته بالتدخل لحل مشكلة ما، بأن «كل واحد يحمى نفسه»، وكأن هذا الإقليم «الصعيد» مقدر عليه أن يدفع دائما دون أن يجد شيئا فى المقابل، ستقول إن هذا كان يحدث قبل الثورة.. نعم لكن شيئا ما تغير فى البلاد وأهلها، لم يكن اللصوص بهذه البجاحة، ولم يكن الناس بهذا الحجم من القلق، حتى عندما قامت ثورة وحررت المصريين، لم ينل منها أبناء الصعيد إلا ما يعانونه من نيران الثورة المضادة، وقلة ضمير الحكومة.