وائل السمرى

أسطورة «أنس»

الأحد، 05 فبراير 2012 03:40 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يرحل الشهداء دائما هكذا، يخلفون وراءهم مكانا شاغرا فى جدار الوطن المفقود، لا يملؤه إلاهم، ولا يزينه إلا صورهم، تبقى الصور توخز ضمائرنا، وتلعن بؤس الخانعين، تعرينا ببراءتها، وتلومنا بطيبتها، وتستحلفنا: أكملوا المسيرة، وحققوا الحلم، ولم يكتف هؤلاء الشهداء الأبرار بكتابة التاريخ، وزلزلة العالم بطهرهم، لكنهم يسطرون أسماءهم كأساطير نادرة الحدوث، عصية على الخيال.

سأحدثكم اليوم عن آخر أوجاعنا، وأيقونة شهداء بور سعيد، سأحدثكم عن أنس محيى الدين، وصورته الباسمة الموجعة، هو آخر أساطيرنا الحية التى نعيش معها، ولا ننتبه إليها إلا بموتها المادى، لتبدأ حياتها الأبدية فى وجداننا، كان كأروع أطفال الجنة، وكأبهى أحلام السماء، لم ينتظر أنس لتهبط عليه الرسالة ليكون نبيا، لكنه حفر اسمه بصلابة ورقة فى قلوبنا، تماما كما فعل الأنبياء، ومن لا يصدقنى فليقرأ رسالته الأخيرة التى أوصى فيها فى حال موته، أن تخرج جنازته من ميدان التحرير، وأن يلف فى علم مصر، وأن يتبرع أهله بعينيه لاثنين ممن فقدوا عيونهم فى الثورة، وأن يتبرع ببقية جسده لمن يحتاجه من مصابى الثورة، تماما كما فعل المسيح، حينما قال: هذا دمى فاشربوه، وهذا لحمى فكلوه.
ياااااه. كل هذا الجمال فى قلب طفل، وكل هذا القبح فى عيون قاتليه.

يا لهذا الوجع المنتشر، يا لهذا الألم الممتد، طفل يصل بفطرته إلى أعلى مراتب التضحية والفداء والنبوة، وكنت أحسب أن زمان الأساطير قد ولى وانتهى، لى الآن أن أسحب إعجابى بفيلم «سفن باوندز» الذى قام ببطولته الممثل الأمريكى الشهير «ويل سميث»، والذى يجسد فيه شخصية بطل أسطورى، قرر أن يسعد العالم بجسده وممتلكاته، فيتبرع بجزء من كبده لمريضة، ويتبرع بعينيه لمدرس موسيقى، ويتبرع بنخاعه الشوكى لطفل، وفى النهاية يتبرع بقلبه لفتاة أثقلتها الديون، كما يتبرع بممتلكاته للجمعيات الخيرية، فها هو أنس الجميل الأنيق الباسم الموجع، يثبت لنا أن الأساطير صناعة مصرية بامتياز، وأن التضحيات لا تحتاج أفلامنا ليراها الناس، ويوقنون من إمكانية تحقيقها.

أحلام واثقة يافعة عفية، تسكن التوابيت، وجثث عفنة متجمدة متكلسة مستبدة، تسكن القصور، والمجالس، والهيئات، والوزارات، هذه هى المفارقة المؤلمة المتحققة فى عالمنا الآن، فلا تحزن يا أنس، ولا تبتئس، فها هم أخوتك فى الميادين والشوارع، يحملون صورتك، ويحفظون اسمك، ويحلفون بدمك، وبحق جمالك ورقتك وبسمتك التى أدمت القلوب، وبحق عينيك اللتين تشعان بالحياة، وبحق روحك الفياضة الهفهافة المتعلقة بالميدان، وبحق حلمك الحى فى قلوب لا تعرف اليأس، سيأتى اليوم الذى به حلمت، وسيعود الوطن إلى معناه الأول المفقود.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة