الموسيقى أذواق، بمعنى أن لكل ذوقه، فهناك من يحب الموسيقى الكلاسيك، وهناك من يحب الجاز، وهناك من يحب الراب، وهناك من يحب الطرب العربى أو الموسيقى الشعبية وهكذا، فى كل إنسان ميل لجميع الأنشطة التى عرفها البشر وقد يعرفونها، لكن ظروف حياة الإنسان هى التى تحدد أياً من هذه الميول سوف يظهر على السطح، وإلى أى درجة سيكون الظهور، الناس جميعا تغنى لكن ليس الناس جميعا مطربين ولا صالحين لذلك، لأن الغناء رغم أنه أحد الميول العامة فى البشر يتجه كغيره من الأنشطة إلى الآخرين، ومن ثم يشترط ما يرضاه الآخرون ويتقبلونه، وعلى رأس الشروط حلاوة الصوت ثم تأتى الموسيقى والكلمات.
الناس جميعا يميلون للعلم، ولكن المجتمع يحدد من هم العلماء، وكذلك فى الأدباء وفى كل المهن والأعمال، وأول مظاهر المجتمع هو البيت والأسرة، ثم المدرسة والحياة خارج البيت والأسرة، وليس ضروريا أن ينتصر البيت والمدرسة على المجتمع، بل على العكس يمكن جدا أن يفسد المجتمع كل ذوق يرسخه البيت، فما بالك ولا ذوق فى المدرسة أيضا، فى النهاية فإن ما يحيط بالإنسان منذ النشأة له تأثيره فى إظهار مواهبه وميوله الموجودة فى روحه بالقوة، بلغة أرسطو، لتكون موجودة بالفعل، نحن نعشق الطرب الشرقى لأننا ولدنا فوجدناه حولنا، ولأنه من قديم الزمان صار للموسيقى الشرقية قواعد وأصول ومساحات تختلف عن الموسيقى الغربية والموسيقى فى شرق آسيا، ولكن فينا الكثيرين أيضا يحبون الموسيقى الغربية، الكلاسيكى منها والحديث، طيب فيما يختلف هؤلاء عن غيرهم؟ فى أمر واحد هو أن الظروف وضعتهم فى جو من المحبة لهذه الوسيقى، فى البيت أو المدرسة أو غيرها، ولأن فيهم ميولا أو مواهب موسيقية أكبر من طاقة الموسيقى الشرقية.
أنا مثلا فى المرحلة الإعدادية اشتركت فى جماعة الموسيقى فى المدرسة، وكان السبب أننى قرأت رواية شجرة اللبلاب لمحمد عبدالحليم عبدالله، وفيها أحد أبطالها مغرم بعزف الناى، والرواية رومانسية جدا، فأحببت الناى وقررت أن أتعلم العزف عليه لكننى لم أفلح، وتركت جماعة الموسيقى، وإن ظللت أحب الطرب العربى، مشت حياتى بالقراءة ومشاهدة السينما وكنت دائما أشعر بشىء ما ينقصنى هو الموسيقى العالمية، التى مشت إلى روحى من الأفلام الأجنبية الخالدة مثل جسر على نهر كواى وقصة حب والدون الهادئ وكرامازوف ورجل وامرأة وزوربا اليونانى وغيرها، صدفة استمعت إلى الكاتب الكبير أنيس منصور فى الإذاعة المصرية يتكلم عن البرنامج الموسيقى فبحثت عنه، البرنامج، وأدمنت الاستماع إليه، وصرت معجبا بالموسيقى الكلاسيكية فقط لأنى أسمعها، لكن الصدفة الطيبة أيضا جعلتنى أستمع إلى برنامج الموسيقى الكلاسيكية الذى كان يقدمه المرحوم حسين فوزى، السندباد المصرى العظيم، من البرنامج الثانى، الثقافى الآن، فأعطيته روحى وعقلى كل أسبوع مساء الخميس لسنوات، وأغرمت بحق بالموسيقى الكلاسيكية، لكنى كنت أعرف أننى لن أزيد عن مستمع، ولن أمارس الموسيقى التى خابت محاولتى فيها قديما، كما خابت محاولتى فى الرسم أيضا، أدركت اننى مدفوع أكثر إلى كتابة القصة والرواية فأخلصت لهما قدر ما أستطيع، صارت علاقتى بالفن التشكيلى هى زيارة للمعارض بقدر ما تسمح به الظروف والوقت لكن صارت علاقتى بالموسيقى كبيرة كمستمع لا ينقطع منذ أكثر من ثلاثين سنة إلى البرنامج الموسيقى، أصبح الليل الذى هو حياتى الحقيقية، حيث أكتب وأقرأ، هو بساط من المخمل فوق أثير الموسيقى التى تتكرر مقطوعاتها دائما لطول عهد استماعى إلى البرنامج، لكنى لا أملّ السماع بل يزداد حبى للموسيقى المكررة لأنها تعود بذكريات قديمة عن بلاد وغرف وأماكن وبشر كانوا معى أو حولى حين استمعت لهذه المقطوعات من قبل، لكن ذلك ليس أهم شىء، الأهم هو أن هذه الموسيقى جعلتنى أعبر كثيرا عن الآلام الشخصية والعامة ولا تزال، رغم أن حجم الألم مما هو عام يزداد كل يوم مما أراه حولى فى الحياة، ولم يكن يخطر ببالى أنه سيحدث فى مصر، ولا أريد أن أسرد بعضه عليكم، لكن فقط أحب أن أشير إلى أن الموسيقى وسائر الفنون يتحمل المجتمع جزءا كبيرا من المسؤولية فى غرام الناس بها، ولى وقت الصبا والشباب كان أفضل، لذلك فهذا الكم الهائل من الموسيقى السريعة المربكة والأغانى ذات الكلمات السخيفة الركيكة الخالية من كل شعر يؤثر كثيرا جدا على المستمعين الذين يحاصرهم هذا الغناء وهذه الموسيقى، وأعتقد أنه أحد أسباب الهمجية فى السلوك التى كنا نراها حولنا قبل الثورة هو هذا الغناء وهذه الموسيقى، لا ترقق المشاعر كالطرب العربى الأصيل، ولا تسبح بك فى الأثير كالموسيقى الكلاسيكية وتحرر طاقاتك الخلاقة، ولقد ازدادت هذه الموسيقى السخيفة إلى درجة أنها صارت تبث من عشرات القنوات والإذاعات وطبعا تتوفر بالملايين فى الشرائط والسيديهات، صارت زاد ركاب الميكروباص والتوك توك والتاكسيات أيضا، ولأنها كذلك فلا يسمعها محبوها إلا وهى عالية جدا دون أى اعتبار للضوضاء لأنها هى أيضا ضوضاء وتنتشر أكثر ما تنتشر فى الأوساط الشعبية التى لا تقدم إليها المدارس مثلا فرصة ليتذوق أبناؤها الموسيقى الحقيقية طربا أو غير طرب، وتنتشر أيضا بين كثير من الأغنياء الجدد راكبى السيارات الفارهة لأنهم تجار فى العقارات والمبانى وغيرها من الأعمال سريعة الدخل كالسمسرة وغيره، ولم يسبق لهم درجة ما من التعليم وفرصة الارتقاء بالذوق عن طريق الفن وهكذا، الآن بعد الثورة لا تزال هذه الموسيقى لكن ظهرت أصوات شابة جديدة كثيرة من الميدان ومن حول الميدان وظهر عشرات الشعراء يكتبون قصائد عن الثورة وصارت القنوات التليفزيونية تذيع كثيرا من هذه الأغانى واشترك فيها مطربون من جيل على الحجار مثلا وجيل فيروز كراوية ومحمد محسن، ورأينا ألحانا أقرب إلى الراب وبسيطة جدا ومقنعة جدا وظهرت أيضا فرق موسيقية من الشباب تجعل العزف والغناء سهلا بسيطا وأهم ما فيها أنها لا توترك بل تأخذك إلى منطقة نسيناها طويلا وهى منطقة الوطن، لقد انفجرت الثورة ولم يجد الثوار فى أيامها الأولى غير الأغانى الوطنية لأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وشادية والشيخ إمام وغيرهم، ملأت الأغانى ميدان التحرير والشوارع المحيطة وملأت كل الميادين حتى ظهر هؤلاء الشباب وغيرهم من قلب الميدان، وحتى جاء إليهم مطربون أقدم مثل الحجار وعزة بلبع كانوا من قبل لا يغنون إلا لشعراء حقيقيين، الموسيقى فى مصر ستتغير بل بدأت تتغير، الألحان لم تعد تميل إلى الطرب التقليدى الذى يريحك ويطلق أحزانك بل صارت تحملك إلى الفرح وإلى القوة، وتطور الموسيقى والغناء الآن سيزيد من جمال الطرب العربى ويوسع من الإمكانات اللحنية ويفتح الطريق للشعراء، لكن لا يزال الطريق طويلا لمحو اللغو الزائف الذى أنتجه النظام السابق عن الحشيش والحمار والحصان وغير ذلك مما ضيق أخلاق الناس رغم ما كان يبدو أنه يبسطهم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة