هذا ليس جدلا فقهيا أو بحثا فى مسألة دينية، هذا كلام يخص التوقيت، وطبيعة الإحساس البشرى والإنسانى..
أنا لا أناقشك فى فتوى الشيخ ياسر البرهامى، أو الشيخ أبوإسحاق الحوينى، أو رموز التيار السلفى الخاصة بعدم جواز الرحمة على البابا شنودة الثالث، أو غير المسلم عموما، أو بالضوابط الصارمة التى وضعها الشيوخ للتعزية، أو الكلمات التى يجب على كل مسلم أن يستخدمها لتقديم واجب العزاء لإخوتهم فى الوطن.
أنا لا أناقشك فى إذا كان الذين قتلوا الأطفال والشيوخ والعجزة باسم الإسلام، أو هؤلاء الذين فسدوا وأفسدوا وسرقوا ونهبوا واختلسوا، يستحقون أن تطلب لهم الرحمة بعد وفاتهم، لأن خانة الديانة فى بطاقتهم بها كلمة «مسلم»، والذين زرعوا خيرا بمشروعات ومخترعات ومواقف محترمة لا يستحقونها منك، لأن بطاقتهم الشخصية تحمل ديانة غير ديانتك؟، أنا لا أناقشك فى ذلك، لأن فطرتك السليمة تملك الإجابة.
أنا أتحدث عن هذه السرعة، وهذا الحرص على ظهور تلك الفتاوى على مواقع الشيوخ والفضائيات الدينية والفيس بوك والمنتديات السلفية، دون مراعاة للظرف الراهن الذى تعيشه مصر، ويعيشه الأخوة المسيحيين، وكأن هناك إصرارا غريبا وعجيبا على ضرب كرسى فى «كلوب» حالة الحزن التى تعيشها مصر.
شوارع مصر عودتنا على أنها قادرة على جمع كل المتضادات، وغسل كل الخصومات فى أوقات الحزن، عودتنا على أن كل الخلافات تتنحى جانبا، وتتلاشى تماما، حينما يقرر الحزن أن يزور البيوت، وفى الأوقات التى تنال المصائب الكبيرة من هذا الوطن، اعتدنا أن نجد الكتف فى الكتف، لا أن يظهر أحدهم ليحدد لنا الطريقة التى يجب أن نشاطر بها إخواننا فى الوطن أحزانهم.
المشاعر الإنسانية تتضافر وتتضامن بالكلمات التى تأتى من القلب إلى اللسان مباشرة، وبالأحضان وبالدموع ، ولا يمكنها أن تفهم السبب وراء تحريم الحديث عن رحمة الله بشخص متوفى، الفطرة الإنسانية تعرف أن رحمة الله تسع كل شىء، وتعرف أن الرحمة بيد الخالق، يمنحها من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وما على الإنسان إلا الطلب، طلب الرحمة الربانية التى تقينا صعاب الانتقال إلى الحياة الآخرة، وتسهل على جميع الأخيار أيا كان دينهم، أو عقيدتهم أهوال مابعد الموت.
الرحمة ياسيدى هى ألا تطلب منع الرحمة عن قلوب أخرى، مهما كانت جنسيتها أو ملتها، فتلك ممتلكات الله، يجود بها على من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، لأنه هو سبحانه وتعالى الأعلم بما فى القلوب، وفى دواخل الأنفس.
الرحمة ياسيدى هى ألا تغرز سكين فتواك فى القلوب الحزينة، وتقرر أن تمنح نفسك حق تصنيف البشر إلى كفار لا يستحقون رحمة الله، وإلى أخيار مؤمنين، تجب عليهم الرحمة، فكما يقول الإمام محمد عبده فى الجزء الخامس من أعماله الكاملة: «إن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهى، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء والمدح بها، بلوك الألسنة والتشدق فى الكلام. بل شرعت للعمل… وإنما سرى الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم بمن بُعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة، وينجون من العذاب، لا بأعمالهم، وإن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم فى أزمنة مضت، إن الإسلام أفضل الأديان، أى دين أصلح إصلاحه؟ أى دين أرشد إرشاده؟ أى شرع كشرعه فى كماله؟ ولو سُئل الواحد منهم ماذا فعل للإسلام، وبماذا يمتاز على غيره من الأديان، لا يجد جوابا».
إذن هى رحمة الله إن شاء ظلل بها كل نفس بشرية زرعت الخير فى الدنيا، أو امتلأ قلبها بفضائل، لم يطلع عليها سوى المولى عز وجل.. رحم الله البابا شنودة، وكل نفس بشرية قدمت للأرض الخير والطيبات، بغض النظر عن دينها أو جنسها أو لغتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة