هل تحب البابا شنودة، نعم، وهل تختلف معه، كثيراً جداً، لكن هذا الخلاف والاختلاف لا يمنع من حب الرجل الذى ظل طوال جلوسه على كرسى البابوية مصرياً. ويشعر الكثير من المصريين بحزن حقيقى، ليس من باب مشاركة إخوتهم المسيحيين ولكن من باب فقدان زعيم روحى اعتادوا على وجوده لعقود، وارتبطوا به وارتبط بهم. وقدم دروساً فى التسامح والوطنية. وحتى الذين يختلفون معه يحملون له التقدير ويشعرون بخسارته.
يرى البعض أن البابا الراحل أدخل الكنيسة إلى السياسة، ويتجاهلون أن الدين دخل السياسة من المساجد والكنائس فى وقت واحد. وأن التدين المصرى كانت له دائما سماته التى تختلف عنها فى دول أخرى. وبحكم التاريخ فإن مصر كانت مركز العقيدة والتوحيد قبل ظهور الديانات السماوية. وبمفهوم الثقافة يمكن القول أنه يوجد إسلام مصرى، ومسيحية مصرية. حملت قيم التسامح عبر قرون، وعصمت مصر من الغرق فى مستنقعات الطائفية. وحتى مع بعض الحوادث طائفية، فإنها ترجع إلى أن المتعصبين من الطرفين المسلم والمسيحى يحملون أفكاراً مستوردة، فضلاً عن غياب الدولة عن الشارع.
والمتدينون من الطرفين يتعاملون ببساطة مع الاختلاف العقائدى. وكانت المساجد والكنائس تتجاور من دون أن يشعر روادها بمشاكل. ولهذا قال اللورد كرومر إنه لا يرى فرقاً بين المسلم والمسيحى سوى أن أحدهم يذهب للمسجد والآخر يذهب للكنيسة. هناك تشابه فى التدين المصرى، مع اختلاف العقائد، وهو أمر استوعبه الآباء والأجداد، وصنعوا به منظومة التسامح. وكان ظهور التعصب قرينا لاستيراد مظاهر اعتقاد، نمت وترعرعت فى بيئات مختلفة.
البابا شنودة كان ينتمى إلى هذا التراث، ولهذا نجح فى الاستمرار، وفى كسب قلوب المصريين حتى من يختلفون معه، وعندما ظهر بعض من يزعمون إقامة كنيسة قبطية على يد ماكس ميشيل، كان الرفض للكنيسة من المسلمين قبل المسيحيين، لأن المسلمين يشعرون أن لهم فى الكنيسة ما يخص وطنهم وتاريخهم، وأن وحدة الكنيسة جزء من وحدة التاريخ. نفس ما يميز المسلمون الذين استوعبوا المذاهب المختلفة على عكس دول تفسخت تحت معاول الطوائف الإسلامية والمسيحية.
وكان تأثير البابا شنودة ممتداً حتى فى الكنائس الأخرى البروتستانتية والكاثوليكية، التى اتخذت هيئتها المصرية، وتمايزت عن مراكزها فى الخارج. وهذا التمازج والتسامح أهم ما يجمع الأغلبية، وحتى مع عيوب كثيرة فى الشخصية، فإن إعلاء هذه القيم من شأنه أن يصنع المستقبل. لأن الطائفية هى أعلى مراحل التعصب، وهى موجودة بدرجات بين التيارات والائتلافات السياسية.
هذه الأفكار تحكم مصر والكنيسة والمسجد، ويفترض أن يستوعبها القادم الجديد على كرسى البابوية، وأن يستوعب دروس البابا شنودة، ومواعظه التى تبقى بعد رحيله، وتحتاج إلى من يستوعبها ويعيد إنتاجها. من أجل المستقبل.