عادت أتوبيسات النقل العام إلى شوارع القاهرة بعد فك مؤقت لإضراب سائقى وعمال النقل العام، وبعد عشرة أيام خلت فيها الشوارع من الأتوبيسات. التى ظلت تروح وتجىء فى الشوارع من عشرات السنين.
الأتوبيس هو مصر بأغلبيتها المضغوطة المضطرة، المتعبة طوال سنوات. والتى تحاول بكل الطرق أن تمشى حياتها باستقرار مؤقت ومصطنع وملفق. يؤدى إلى أن يفرغ كل طرف غضبه فى الطرف الآخر، سائق الأتوبيس والمحصل لايحصلان على حقوقهما فيفرغان الغضب فى الركاب، الذين يواجهون نفس الظلم، فيفرغون غضبهم فى بعضهم.
ماجرى فى الهيئة طوال عقود هو نفس ما كان يجرى فى مصر. تحت سطح هادئ، هناك صراع وأمواج وتقلبات. فساد وتلاعب، ومثل كل المؤسسات فى الدولة كانت مغلقة على فساد وإهمال وعشوائية، وظلم للعاملين من الأغلبية مقابل عدد قليل يحظى بالمكاسب والثمار. ثم إن كل هذا الفساد والظلم مغلق عليه، ومحاط بسياج أمنى يمنع الشكوى ويحفظ الاستقرار المزيف. كانت أتوبيسات هيئة النقل العام تواصل سيرها ضمن منظومة الفوضى المنظمة غصبا. والضغط الأمنى يمنع الانفجار. وهو استقرار على سطح يغلى. ومثل كل شىء تفجرت شكاوى وأزمات النقل العام، قالوا إن رواتبهم تضيع فى المخالفات، وإنهم لايحصلون على مكافأة نهاية خدمة إنسانية، ولا حوافز وبدلات. وليس ركاب الأتوبيس بأفضل حالا من السائق والكمسارى والميكانيكى، فهم أيضا يتحملون الزحام والضغط من أجل أن يذهبوا لأعمال لايحبونها ولاتلبى أجورهم متطلبات حياتهم، فيلجأون إلى أعمال إضافية لتحسين الدخل. متعبون فى أتوبيسات متعبة.
الآن خرج العاملون فى هيئة النقل العام عن الصمت، وسقطت ضغوط الأمن، وبدأوا يصرخون مع ملايين المصريين فى الهيئات والشركات والمصالح الحكومية، فيما يسمى المطالب الفئوية، يضاف إليهم الفلاحون وجنود الشرطة. الكل له مطالب بعد سنوات تجمدت فيها الرواتب وتضخمت فيها الأسعار. وكان المصريون يواصلون حياتهم بالتلفيق والتكيف. فى الأتوبيس وفى الحياة، معزولون عن الانتخابات، مستبعدون عن ألاعيب السياسة، التى تدور بعيدا عنهم، يخضعون لسطوة أمنية، ويجنون ثمار فساد يستشرى فى كل مكان. يدفع بهم إلى زحام الأتوبيسات، والعشوائيات والمساكن الضيقة، ويستأثر عدد قليل بكل شىء، وحتى صفقات شراء الأتوبيسات كان يقوم بها حلفاء النظام، يختارون للناس مايركبونه. كان السائقون والعاملون فى النقل يقتسمون مع الركاب الظلم والاستبعاد، ويفرغون غضبهم فى بعضهم.
أتوبيس النقل العام نموذج مصغر لمصر بكل مافيها من عشوائية وظلم واستبعاد وتزوير واستقرار مزيف، وإذا تغيرت صورة الأتوبيس تتغير صورة مصر. فإذا أصبح أتوبيس النقل العام إنسانيا، فيه سائق ومحصل يحصلان على حقوقهما، سوف يحترمان حقوق الركاب. هل يدرك مجلس الشعب والسياسيون والمرشحون المحتملون كل هذا؟.
إذا تغيرت أحوال شعب الأتوبيس من عاملين وركاب يمكن الرهان على تغيير مصر.