كانت فى وقتها نكتة رائجة على ألسنة قيادات الإخوان والسلفيين والليبراليين واليساريين وشباب الثورة، كلما ظهر أحدهم على شاشة التليفزيون بعد أى كارثة دموية مثل محمد محمود، أو مجلس الوزراء، أو بورسعيد، وسألوه عن أداء المجلس العسكرى، يدفعه خوفه إلى أن يكون دبلوماسيا ويتكئ اتكاءة الخبير والعالم ببواطن الأمور ويقول: «المجلس العسكرى يفتقد للخبرة السياسية».
أنا مثلك تماما سمعت هذه الجملة مرارا وتكرارا من رؤساء أحزاب وقيادات إخوانية وشباب ثورة ومثقفين وفنانين، حتى ظننت أن القوى السياسية المختلفة ستعصر المجلس العسكرى عصرا، وتضعه على حجرها، وتقوم «بتدليعه وهشتكته» حتى يسلم السلطة فى أسرع وقت، وبأيسر شكل دون مشاكل، على اعتبار أنه قليل الخبرة، ولن يجد مفرا من الخضوع لقيادات الإخوان واليسار والليبراليين وشباب الثورة الذين أوهمونا بأنهم أهل الدهاء والمكر والخبرة، من كثرة حديثهم عن المجلس العسكرى الذى لا يعرف ألف باء سياسة.
نكتة المجلس العسكرى قليل الخبرة التى أعجبت المجلس، وظل يرددها فى رسائله وبياناته، مؤكدا أن السياسة ليست أرضه، لم تكن فقط وسيلة لتبرير فشله أو خططه للالتفاف على الثورة، ولكنها كانت طريقا خفيا لاستدرار عطف الناس على المجلس بشكل جعل التغاضى عن أخطائه أمرا واجبا، على اعتبار أنها لم تكن سوى تجاوزات طفولة سياسية.
الآن ونحن أمام مشهد يبدو فيه المجلس العسكرى هو الطرف المحايد، أو المنقذ الذى يجلس فوق المنصة العليا لحل مشاكل القوى السياسية وحماية الثورة والوطن من الحرب والخلافات الدائرة بين الإخوان والقوى السياسية المدنية والثورية، لابد أن نعترف أن النكتة التى كنا نضحك من فرط «بواختها» لم تكن سوى فخ سقطت فيه القوى السياسية.
المجلس العسكرى الذى نجح فى الاختفاء عن الساحة فى الشهور الأخيرة، أتم مشهد رعاية الصلح بين القوى السياسية والظهور بمظهر القاضى العرفى الذى يملك حكمة التوافق والحفاظ على الوطن من الخلافات الناتجة عن أطماع السلطة، حينما دعا إلى لقاء أمس الأول مع القوى السياسية المتنافرة بعد خلافات الجمعية التأسيسية، ليبدو كأنه الطرف العاقل والزاهد فى السلطة، وسط أطراف سياسية كثيرة تتراشق بالألفاظ والاتهامات من أجل السلطة.
نجح المجلس العسكرى فى استكمال الصورة التى يريدها لمصر خلال المرحلة الانتقالية، صورة لقوى سياسية لا تعرف ولا تعترف بضرورة التوافق من أجل الوطن، وتشعل معارك قد تحرق مصر من أجل مصالحها الشخصية، ثم ظهر هو فى الوقت المناسب كرجل المطافئ الشجاع الذى يلقى بنفسه وسط نيران خلافات الإخوان والليبراليين لإنقاذ مصر من أطماعهم.
بغض النظر عن موقفك من المجلس العسكرى، النتيجة الآن تقول بأن المشير ورفاقه نجحوا فى أن يضربوا القوى السياسية فى بعضها، ويعيد البساط مرة أخرى أسفل أقدامه، ويجعل من نفسه «الصدر الحنين» الذى يحتضن الجميع، ممهدا لنفسه خروجا آمنا من ساحة سياسية مشغولة بنار الخلافات، أو ربما للاستيلاء على سلطة أضعفت الصراعات عليها تيارات كانت فى الماضى تشفق على المجلس العسكرى من قلة الخبرة السياسية، فاكتشفنا معها أن خبرتهم فى الفوضى وعشوائية القرار والطمع فى السلطة أكبر من الخبرة السياسية التى كانوا بها يعايرون المجلس أو يمهدون له دون أن يدروا الطريق نحو السيطرة!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة