قيل إن سعد زغلول حين شعر بدنو أجله وأن زيارة الحكيم بلا فائدة طلب من صفية هانم حرمه المصون ألا ترهقه وترهق نفسها بأمل كاذب فى الشفاء، بل زاد بأن قال لها: «يا صفية غطينى مافيش فايدة»، ولكن الحس الشعبى المصرى حول هذه العبارة بين رجل مريض وزوجته إلى حكمة مصرية خالصة حين يشعر المرء باليأس من أى شىء فيقول «مافيش فايدة غطونى وصوتوا».
كنت أتصور أن هذه الحكمة يستخدمها الأحياء فقط، وبالتأكيد لا تسرى على الأموات، لأنهم بالفعل قد مروا بتجربة طلب أن يتم تغطيتهم ويصوت عليهم البعض، ولكن يبدو أن تصوراتى قد ضاعت هباءً بعد الثورة المصرية المجيدة.
وإليكم ما حدث لى فى منطقة الهرم، لتتأكدوا مما أقول، فقد كنت فى طريقى لمنطقة الهرم، وإذا بى أسمع صوتاً واهناً نوعاً ما يصرخ قائلا «غطونى وصوتوا» فالتفت تجاه الصوت متصورة أنه لرجل حى يائس، فتوقفت باحثة عن مصدر الصوت وقلت: لعلى أحاول أن أبعث فيه الأمل. وإذا بى أكتشف أن الصوت يخرج من تمثال مغطى بالبلاستيك وملقى فى ساحة مهجورة فى أكاديمية الفنون، فقلت فى نفسى: أضغاث أوهام، فالتماثيل لا تتحدث، فهى صماء بلا حياة، وما إن هممت بالإنصراف حتى عاد الصوت يقول «غطونى وصوتوا» وصراحة انت ابنى الخوف الذى جمد قدمى، ولكنى قررت التقدم والعودة أدراجى فى اتجاه التمثال لعلى أكتشف خدعة من أحد يقف خلف التمثال مثلاً، ودرت حول التمثال فما وجدت أحداً، وراح الصوت ثانية وثالثة يقول «غطونى وصوتوا»، فاقتربت منه بشجاعة نادرة وأزحت جزءاً من البلاستيك الملفوف حول وجهه لأتبين الأمر. فإذا بى أجد تمثالا ظننت أنى أعرف صورة صاحبه وركزت بعض الوقت فاكتشفت أنه تمثال للمخرج الراحل محمد كريم، وهو، لمن قد لا يعرفونه، أحد رواد السينما فى مصر وبالتالى فى العالم، حيث إن عمر السينما المصرية يكاد يقارب عمر السينما العالمية.
محمد كريم ممثل ومخرج وكاتب ومونتير وماكيير، هو صاحب فيلم زينب أول فيلم يؤخذ من أصل أدبى، وهو صاحب أول فيلم ناطق فى السينما «أولاد الذوات»، وهو مخرج السبعة أفلام التى قدمها عبد الوهاب لشاشة السينما، كما أنه أول من أخرج فيلم سكوب ألوان فى الشرق وهو فيلم «دليلة» لعبد الحليم حافظ، وأخيراً وليس آخراً هو أول عميد لمعهد السينما عام 1959.
نعم عرفت التمثال وصاحبه، وحين بدا على وجهى الدهشة من حكاية الصوت الذى ينادى «غطونى وصوتوا» راح التمثال يحكى لى حكايته، فقد نحته مثّال هو أسامة السويرى وكان القرار بأن يوضع فى الشارع الرئيسى لأكاديمية الفنون ويتم رفع الغطاء عنه فى احتفالية كبرى يحضرها وزير الثقافة والفنانون وكثير من المثقفين، ولكن كل ذلك لم يحدث، بل غطوه ورموه، «طب ليه يا أستاذ»؟ كان سؤالى.. طبعا التمثال ماكنش فاهم لأن صاحبه مات عام 1972 فرد قائلاً: حاجة غريبة جدا قالولى إن أعضاء مجلس الأمة عن دائرة الهرم من حزبين واحد اسمه النور على اسم باريس عاصمة النور والتانى اسمه الحرية والعدالة رفضوا وضعى فى الشارع، لأن هذا يستفز المشاعر، والغريب لما سألوا الوزير قالهم معرفش ده شغل المحافظة، والمحافظة خافت من النواب فرمونى هنا وغطونى وقالوا لبعضهم: أصل التماثيل حرام. وسأل تمثال الأستاذ ببراءة غير معهودة فى التماثيل «هو انتو دلوقت رجعتم لعصر أبو لهب ولا أنا اللى كنت عايش فى زمن تانى؟» وأضاف: «وازاى بتوع النور والحرية والعدالة يقولوا حاجة كده.. أكيد فى حاجة غلط».
فعلاً فيه حاجة غلط يا أستاذ، فما هى إلا أسماء أسموها ما أنزل الله بها من سلطان، فعلاً فيه حاجة غلط يا أستاذ.. وغطيت الوجه ثانية بالبلاستيك وبدأت أبتعد وأنا أسمع صوت تمثال محمد كريم يصرخ «فيه حاجة غلط غطونى وصوتوا»!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة