مهما قيل لك عن إنسان إنه واضح كالشمس، يقول ما يفعل ويفعل ما يقول فلا تصدق على طول الخط، هناك دائمًا حياة سرية لكل إنسان، قد تكون سيجارة يخفيها التلميذ الصغير عن أهله، وقد تكون امرأة يخفيها الرجل عن زوجته، أو العكس، تختلف الحياة السرية بين الناس، فهى بين الناس العاديين لا تهم أحدًا إلا الدائرة القريبة من صاحبها، لكنها عند السياسيين تهم الجميع، وربما كذلك الأمر عند الفنانين، وحين يتم اكتشافها، ودائمًا ما يتم اكتشافها حتى ولو بعد الوفاة، تحدث احتجاجات وغضب، وأحيانًا دهشة وعجب، ولا تنتهى الحياة السرية للناس من الحياة، للنساء أيضًا أسرارهن التى سرعان ما تنتهى فى أكثرها بعد الزواج، على الأقل فى المجتمع الشرقى الذى يصبح فيه الزواج غاية المراد للمرأة، ولكن هذا لا يمنع من حياة سرية بعد الزواج عند بعض النساء تبدأ من إخفاء الزوجة الطيبة شيئًا من مصروف البيت بعد توفيره، انتهاء بالخيانة.
وللحياة السرية أسباب، منها مثلاً الخوف، وأحيانا الحرص، وأيضًا الاضطرار، وكلها تدور فى معنى واحد، هو عدم القدرة على الإفشاء أو الوضوح، فى الحياة السرية جانب اضطرارى حقّا، لكن أيضًا الجانب الاختيارى فيها أكبر، فالإنسان دائمًا ما يندفع وراء الشهوات أو الرغبات أو الأهواء، ليس لسبب من قلة الأخلاق مثلاً، وهو سببب وارد، ولكن هكذا وجد الإنسان محبّا لكسر كل الأطواق، وراغبًا فى المغامرة والتغيير والخروج عن المألوف، النزق طبيعة بشرية تتفاوت درجاتها بحسب العمر والمال والقوة، وتزداد الحياة السرية عند أصحاب المال والسلطان ونجوم المجتمع، ويصبح كشفها هدفًا كبيرًا للصحافة حين تكون حرة أو غير حرة، ولكن فى زمن تالٍ وبالذات بالنسبة لأصحاب السلطان.. وتجلب قراءً أكثر من أى موضوعات أخرى، ومن يقع على شىء منها من الباحثين يعتبر ما وقع عليه ثروة، خصوصًا إذا كان يغير ما هو معروف عن النجم أو السياسى، ولكنّ هناك فرقًا كبيرًا، ما يتم معرفته عن السياسى قد يكون مفيدًا فى تفسير قراراته وأعماله السياسية التى هى فى الأصل كانت لخدمة الناس، لذلك قد يكون اكتشافها مفيدًا، لكن بالنسبة للفنان فالأمر لا يجب أن يعنى شيئًا لأحد، لأن علاقة الناس بالفنان هى ما قدمه من فن وليس ما فعله فى حياته، حياته السرية حتى لو تم كشف شىء منها تظل تخصه وحده أو يجب أن تكون كذلك، وفى الغرب مثلاً يمكن أن تعرف بسهولة أن ديفيد هربرت لورانس كان على علاقة بهنرى ميلر، وكلاهما كاتب، ولا يهتم أحد إلا بأعمال كل منهما، ويقرأون عن ذلك من باب التسلية، أو تعرف أن روجيه فاديم المخرج الروسى كان على علاقة بثلاث نساء لهن فى الفن تاريخ كبير، هن بريجيت باردو وكاترين دى نيف وجين فوندا، بل وتقرأ مذكراتهم فى ذلك، لكن هذا لا يؤثر أبدًا على فهم واستقبال الناس لأفلامهم، أو أن جيرترود شتاين كانت على علاقة ببيكاسو وغيره، وهكذا، لذلك ما يكتبونه من مذكرات هناك لا يمكن أن نكتبه نحن فى مصر أو العالم العربى، لا يقبله المجتمع، مذكرات المرحوم الدكتور لويس عوض أثارت الكثير من الغضب عند أسرته، رغم أن ما فيها من أسرار عادى جدّا، لا يمكن أن يكون كاملاً، كذلك فعلت مذكرات المرحوم الكاتب اللبنانى الدكتور سهيل إدريس، وإذا ترك النجم مذكراته ورحل قبل أن تنشر يقوم ورثته بتنقيتها مما يظنونه مشينًا، رغم أن الحياة لا يمكن أن تكون على وتيرة واحدة.. وأخطاء الفنان فى الحياة لا علاقة لها بما تركه من فن، ولم تكن بالنسبة له أخطاء، ولا يعنى كون فنان أو كاتب حشاشًا أو مدمنًا أو محبّا للنساء رأيًا فى أعماله الفنية، ولا يمكن للزعماء والقادة والنجوم فى الثقافة والفن والكرة وغيرها أن يكونوا أنبياء، حتى الأنبياء كانت لهم أخطاء قدمت الكتب المقدسة شيئًا منها، وظلوا أنبياء، وبالذات فيما جاء فى التوراة عنهم، لكن كما قلت يختلف الأمر فى السياسة عنه فى الفن، لأن أعمال السياسى أو القائد العسكرى تعود على الناس، بينما أعمال الفنان لا علاقة لها بما يقدمه من فن، قد تتسبب فى أن يكون فنه عظيمًا أو غير عظيم، والفن العظيم قد يسعدك، لكن غير العظيم لن يتعسك أو يضرك كما هى قرارات السياسى السيئة، ومن هنا يأتى الحديث كل عام حين نسمع عن مسلسل عن حياة ممثل أو زعيم، لا أحد يريد أن تخدش للزعيم أو البطل أو النجم أى صورة، رغم أن الحقيقة لا تخدش الصورة بل تجملها، وخصوصًا فى الفن، لذلك لم يصل أى مسلسل عن شخصية ما إلى الصدق الذى وصل إليه مسلسل أسمهان منذ ثلاث سنوات، الذى قدمها إنسانة حقيقية رغم نجوميتها الفنية، حتى مسلسل محمود درويش لم ينجح فى تقديمه إنسانًا وشاعرًا، وكذلك مسلسل صباح، والآن بعد أن انحدر مجتمعنا كثيرًا فى فهم الفن والفنان صار من الصعب أكثر أن تقدم فنانًا باعتباره إنسانًا طبيعيّا.. وفى حالة ظهور أى سر يتم نفيه بشدة وترفع القضايا فى المحاكم وتدبج المقالات المدافعة من الأنصار رغم أن ذلك لن يقلل أبدًا من قيمة صاحبه الفنية، لأن صاحبه عند الناس هو فيما تركه من فن وليس من سلوك، فهو هنا لا يعنى أحدًا، لا يقول أحد أبدًا إن أدهم الشرقاوى كان لصّا. ما بقى منه أنه كان لصّا للأغنياء من أجل الفقراء، ولا يقول أحد أبدًا إن ياسين كان لصّا، ولكن ياسين هو عاشق بهية فقط، ولا يقول أحد إن ابن عروس، الشاعر العظيم، كان قاطع طريق، لكنه صاحب الرباعيات العظيمة وكفى.
لقد عرفنا إذن تاريخيّا أن ما يبقى هو ما نحبه من صاحبه، خاصة أننا بعيدون عن السياسة وأصحابها، ورغم ذلك يخاف كتاب السيرة الدخول فى المناطق الشخصية، ولا ألومهم، حتى أبطالنا فى السياسة حرمنا من معرفة حياتهم الشخصية، مجرد معرفة لن تقلل من قيمتهم، لأنهم أبطال حقيقيون، فلا يقول أحد أبدًا إن سعد زغلول كان يحب القمار، رغم أن حبه للقمار لن يلغى أنه هو الذى نفاه الإنجليز وزملاءه حين طالب باستقلال مصر فقامت ثورة 1919، عاثرو الحظ فقط الذين انتهت حياتهم بالهزائم هم من تفتح دفاتر حياتهم السرية، إما لتفسير هذه الهزائم أو للتقليل من قيمتهم، هل يأتى علينا وقت نفرق فيه بين الخاص والعام، نضع الخاص فى مكانه باعتباره يتعلق بالجانب الإنسانى للشخص وليس بالضرورة له دوره فى تحديد صورته عند الناس، لا أظن الآن، فكما يبدو لنا المظهر هو الأهم فى كل شىء حتى الآن بصرف النظر عن السلوك، يكون أمر الحياة السرية للمشاهير أو غيرهم، والمدهش أن هذه الحياة السرية حين يتم الكشف عنها تشغل الجميع رغم أن صاحبها أرادها سرية، أى خاصة به وحده، ومن ثم يجب حين كشفها ألاّ تثير أحدًا بل تقرأ باعتبارها سلوكًا خاصّا بصاحبه ذهب معه مادامت لم تؤثر على قراراته فيما يخص الناس، ويجب أن نتعلم أنها لن تغير من وضعه فى النفوس والقلوب لأنها تخصه وحده.. هكذا أراد وهكذا هى، لكن نحن لا نستوعب ذلك، وفى الأيام القادمة لن نستوعب أى نزوات فى الفن نفسه بعيدًا عن الحقيقة، وربنا يستر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة