من وجهة نظرى، فإنى أعتبر من يسرق «جنيها واحدا» من المال العام فكأنما سرق الناس جميعا، ذلك لأن هذا الجنيه حق للجميع، من يستولى عليه يسرق حقنا وحق أبنائنا وآبائنا فى التعليم والصحة والرعاية والنقل، وجميع الخدمات التى توفرها الدولة، كما ينتقص من استثماراتها، ويستنزف خزينتها، ويضعف من هيبتها، ويجعلها فى احتياج للدول الخارجية للتغلب على العجز فى الموازنة، لذلك كانت دهشتى كبيرة، وألمى لا حد له، عندما علمت أن مئات الملايين سنويا تضيع على الدولة، بسبب تجارة رائجة يلجأ إليها بعض أصحاب الذمم الخربة والضمائر الخاوية، وهى التجارة المسماة بـ«فواتير الأصول الثابتة».
الصدمة حملها لى أحد أصدقائى العاملين بمجال المحاسبة الضريبية، والذى جلس معى أكثر من ساعة ليشرح لى كيف تتلاعب الشركات الكبرى فى ملفاتها الضرائبية، فقال إن بعض الشركات تلجأ إلى صنع كيانات وهمية صغيرة منبثقة من الشركة الأم، وذلك للتهرب المشروع من الضرائب، وللاستفادة من الإعفاء الضريبى على الشركات الجديدة لمدة قد تصل إلى عشر سنوات، والمفاجأة الأكبر هى أن هذه الشركات ذاتها بعدما تمر فترة الإعفاء الضريبى عليها، تلجأ إلى حيلة أخرى، لتستمر فى التهرب من دفع الضرائب، وسرقة حق الدولة وحقوق المواطن، بأن تقوم بدمج هذه الشركات مرة أخرى للاستفادة أيضا من الإعفاء الضريبى على الشركات المدمجة فى الكيانات الكبرى. والكارثة الكبرى تكمن فى قصة شركة تابعة لأحد أعضاء النظام السابق الهاربين، والذى قال لى صديقى إن شركاته مازالت تتبع نفس أساليب التهرب الضريبى «القانونى»، ومازالت تجنى أرباحها بالطرق القديمة، وتورد له مئات الملايين فى مهربه، وتأكيدا على فساد دولة رجال الأعمال التى أنشأها جمال مبارك، قال لى إن هذا الرجل صاحب أكبر شركات الأغذية فى مصر، وبحكم قربه من صناعة القرار كان يغير من شكل شركاته كلما ناقشوا قانونا جديدا، ليستفيد من إعفاءات القانون الجديدة، والتهرب من استحقاقات القانون القديم، تماما كما كان يفعل «فتحى نوفل» بطل فيلم «طيور الظلام».
لا تقف حدود السرقة الحرام لمال الشعب عند هذا الحد، إنما تتعداه إلى فرع آخر أكثر تخريبا فى الاقتصاد الوطنى، وبحسب ما قاله لى صديقى المحاسب فإن بقانون الضرائب الحالى مادة تتيح أكبر قدر من التلاعب بأموال الشعب، وضرب لى مثلا قائلا: حينما تؤسس شركة جديدة فإن الحكومة تعفيك من الضرائب لمدة خمس سنوات، بعدها تقوم بحساب الأصول الثابتة بشركتك، والتى تكون فى شكل معدات وآلات وماكينات، ثم تخصم ثمن هذه الأصول الثابتة من إجمالى الربح المستحقة عنه الضرائب على سنتين فقط، لتكون هذه الأصول الثابتة فى حكم مصلحة الضرائب «أصولا هالكة» وذلك نظريا يأتى فى صالح المواطن، لأنه من المفترض أنه بعد سنتين فقط تحصّل مصلحة الضرائب مستحقاتها كاملة دون خصم نسبة هذه الأصول، لكن للأسف هذا الأمر يظل نظريا فقط، لأن الكثير من الشركات تلجأ إلى لعبة قذرة تسمى بشراء «فواتير أصول ثابتة» بمبلغ يصل إلى %4 من قيمتها الإجمالية، بما يعنى أن الواحد إذا اشترى فاتورة بمليون جنيه مقابل 40 ألف جنيه يعفى من سداد نسبة الـ%20 ضرائب على المليون جنيه لمدة عامين، أى 400 ألف جنيه.
يا كل جهاتنا الرقابية، يا برلماننا المهاب، يا مشرعينا وحقوقيينا ومحامينا، يا أصحاب الرأى والقلم والحجة، يا برامج التوك شو يا مرشحى الرئاسة، أهدى إليكم هذه القصة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة