ذهبت إلى الدوحة مشاركة فى مهرجانها للأفلام التسجيلية، وظننت خطأ أنها ستكون استراحة محارب فى أحضان فن لا يكذب ولا يتجمل، فالسينما الوثائقية لمن لا يعرفها أو يقدر قيمتها- إن كانت جيدة الصنع- أقوى من كل فنون الدنيا، وهى أكثر تعبيراً من كل كلمات البشر وصحف العالم، وجميع برامج المحطات الفضائية والأرضية.
السينما التسجيلية أفلام تحكى بالصوت والصورة حقائق لا تقبل التشكيك، وشهادات حق عن أحداث ما كان للناس معرفتها إلا من خلالها. ورغم ذلك وربما لهذا السبب فالسينما التسجيلية سينما يتيمة، لا تجد لها أبا أو أما، مقارنة بالسينما الروائية التى تكذب كثيراً وتتجمل دائماً. فربما يعرف كل حكام الأرض قوة تأثير هذه السينما إذا انتشرت، ولهذا لا يلقى لها الإعلام الموجه بالاً، قصداً أو جهلاً.
المهم، لقد سافرت متصورة أننى سأهرب من مشاكل مصر لأحضان سينما تنسينى هموم بلادى ولو قليلاً، فإذ بى أقع فريسة لهموم كل بلاد الدنيا شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، شاهدت أفلاما تفطر القلب عن فظائع الحرب الأمريكية فى العراق، وأخرى عن هؤلاء المرابطين فى الأرض المحتلة وكيف يواجهون العدو، وفيلما آخر باسم السرقة من الفقراء يصور كيف تسرق أوروبا الأسماك من شواطئ أفريقيا الفقيرة، وتحرم أهلها من خيراتها، شاهدت هموم وأحزان الفقراء فى أمريكا الجنوبية، وحتى أوروبا القارة التى تبدو بيضاء غنية مستقرة، ففقراؤها يعيشون عيشة أكثر ضنكاً من عيشة سكان العشوائيات فى مصر.وخلاصة الأمر أننى هربت من مشاكل بلادى لأرتمى فى أحضان مشاكل الدنيا، وكأن لسان حال القدر يقول لى لا مهرب ولا سفر كفيل بأن يريحك من ظلم الإنسان للإنسان.
وها أنا عدت لأجد عناوين الأخبار تشمل عشرات الأحداث، ولا شىء فيها يسر القلب أو يحيى أملا أو ينبئ بتغيير فى بلد ثار ومازال.
كل رموز الزمن البائد مازالوا يتصدرون المشهد، كل رموز الإسلام السياسى مازالوا يقتنصون الفرصة تلو الأخرى لسرقة بلد بمن فيه طمعاً فى دنيا لا دين، كل رموز الحكم مازالوا ودنا من طين وأخرى من عجين، والقضاء الذى نقول بين الحين والآخر إنه الحصن الحصين صار مطية للأهواء، ولأحكام عجيبة لا تتفق مع قانون أو منطق، سواء فى براءة أو إدانة.
الأخبار تعلن أن المحكمة أيدت حكم الحبس لعادل إمام ثلاثة أشهر بسبب أفلام قدمها منذ أكثر من عشرين عاما كانت تهاجم الإرهاب المتمثل فى لحية وجلباب، فاعتبروها تزدرى الدين، ولن أتحدث هنا عن منطق حرية الإبداع والتعبير، ولكننى أتساءل عن أشياء منطقية ما ناقشها أحد ولا طرحها تساؤل. عادل إمام إن كانت هناك تهمة توجه لأفلامه، فهو آخر المتهمين لأنه ليس هو الكاتب ولا المخرج، أصحاب الفكرالأصيل فى هذه الأفلام، بل هو مجرد وسيلة نقل، فهل يجوز مثلاً اتهام جهاز التليفون بالإباحة لأن عن طريقه أتتنا مكالمة فيها قلة أدب؟! عادل إمام فى أفلامه مثل غيره من الممثلين، ناقل للكفر أو الإيمان أو القبح أو الجمال، وناقل الكفر لو فعل ليس بكافر، فلماذا يصدر حكم بحبسه؟!
وما سبق ينقلنا بالتبعية للسؤال التالى: فإذا كان الأمر كذلك، لماذا وجّه ذلك المحامى سهامه للناقل وليس للفاعل الأصلى؟ وأظن أن الإجابة لا تتحمل إلا جوابا واحدا، لأن عادل هو الأشهر، فهو بالنسبة لمتهميه الفرصة للضوء والفرصة للتخويف الأكبر.
وبالتبعية أيضاً، لابد أن نطرح سؤالا حول الجلباب واللحية التى اعتبروها مقدسة وجزءا أصيلا من الدين، وبالتالى فأى تهكم منها أو من أصحابها يعد تعدياً على الدين ذاته، وفى ذلك أقول: الرسول عليه الصلاة والسلام كان صاحب لحية ويرتدى جلبابا، ولكن أبو لهب أيضاً، رأس الكفر فى مكة والتاريخ، كان صاحب لحية ويرتدى جلبابا، فلا أحد يستطيع أن يعطى اللحية والجلباب قداسة، لأنه بذلك يمنح أبا لهب، رأس الكفر، قداسة.
وأخيراً وليس آخراً، أفلام عادل إمام تسخر وتفضح رؤوس الإرهاب وأصحابه الذين يتلفحون بالدين، ومن العجب أن يخرج أحد ليدينه إلا لو أن واحدا منهم هاله أن يرى صورته فى مرآة واضحة جلية فكرهها ولم يرد مواجهتها، لذا قرر أن يكسر المرآة بحكم قضائى.
ويظل السؤال: أى قضاء هذا الذى يحكم على الناقل، ويرى الدين فى اللحية والجلباب، ويدافع عن إرهاب وقتل باسم الدين الحنيف؟.. ولا عزاء لسينما تكذب أحياناً وتتجمل أو لا تفعل، وقضاء كذلك!