لا أعرف ما هو شعور الأم التى يخرج ابنها المراهق ليشجع فى مباراة كرة قدم مع أصدقائه، ولا تدرك فى الحقيقة إن كان سيذهب للتشجيع فحسب أم أن خططًا أخرى سبق أن وضعها مع رفاقه «الألتراس»؟، لكننى متأكدة أن شعور الأم التى يخرج ابنها المشجع فرحًا بمباراةٍ يتشوق إليها، فيعود إليها جثةً هامدة، هو شعور لا يمكن أن تصفه الكلمات ولا أن يتحمله بشر، شعور للأسف.. سيظل بيننا طويلًا بعمر أمهات الألتراس الثكالى، شعور وثقته لنا كاميرات المصورين، وسيبقى يطارد جيلنا مهما طال بنا العمر، وسيعرفه الآتون بعدنا مما صورناه بأيدينا وسيطلقون أحكامهم علينا حينها ولن يعثروا لنا على مبرراتٍ للغفران أبدًا.
الشعور هو نفسه للأب الذى يفرح بابنه حين يركل الكرة للمرةِ الأولى، ثم لا تتبقى له «الأب» سوى لوعته لحظة أن يرى فلذة كبده وقد كَبُرَ ليصبح جثةً فى لحظةٍ لا يمكن وصفها سوى بالعبثية وتورثنا جميعًا ألمًا لا يمكن احتماله.
كيف تحولت لعبة كرة القدم، منبع البهجة للشباب من كل الأجيال، إلى كابوسٍ تخشى كل أسرة أن يحط فى منزلها؟، كيف أضعنا البهجةَ إلى هذا الحد؟، وكيف فقد حتى أصغر من فينا القدرةَ على الفرح، كيف تركنا أبناءنا ليحملوا الهَم مبكرًا جدًا إلى هذهِ الدرجة؟!، كيف أصبح اللون الأحمر لدى المراهقين يرمز إلى الدم أكثر مما يرمز إلى لون فانلة النادى صاحب الشعبية الأكبر؟، يا الله.. ماذا فعلنا بأنفسنا وماذا أورثنا أبناءنا؟.
ولأن الألتراس لا حزب لهم ولا مرجعية سوى براءة أعمارهم المفرطة، سوى الحب الوحيد الذى عرفوه فى وطنٍ لم يعلمهم كيف يحبونه، علينا أن نتوقف كثيرًا فى محاولةٍ للفهم.. لا.. لنجعلها محاولة للإحساس بهم أولًا: كيف فعلوها؟ من أين أتوا بكل هذا التمرد واللاخوف؟ كيف يتواصلون؟ وإلى أى مدى ينوون الذهاب؟ وماذا يريدون أصلًا، إن كانت لديهم الإجابة.
«الألتراس» الظاهرة الأكثر قدرة على إثارة الدهشة وسط كل ما يجرى، والتى على ما يبدو الأكثر قدرة على الاستمرار لسببٍ لا نعلمه، تستحق منا جدية فى بحث حالتها، وعملا أكثر لمعرفة أبعادها، وجهداٍ مخلصا لإنقاذ أعضائها من مجهولٍ آت، قد يجعلهم كبش فداء لأىٍ كان فى هذا الوقت العصيب، فى أيامٍ لا يعرف فيها القاتل من قاتله، وتلتبس الأسئلة تمامًا كما تلتبس الأجوبة.
للألتراس حلاوة لا تعرفها إلا حين ترى مسيراتهم تجوب الشوارع بكل جدية، تحمل من الطاقة الهادرة ما هو جدير بخلق وطنٍ جديد.. بل بخلق وطن من العدم، فما بالنا بوطنٍ هو موجود أصلًا ولا يجد من يمنحه قبلة الحياة وحسب!، لكنها للأسف طاقة مهدرة، لا صاحب لها ولا منتهى!.
للألتراس بهجة تحسدنا عليها شعوب تتسول الشباب، ونحن نحظى بهم فنهدرهم هكذا بلا منطق ولا عقل، لو أننا استفدنا فقط بنصف حماستهم لشىءٍ أى شىء، ما اعتبروا الشوارع أوطانهم، ولفهموا أنها لا توصل أيًا لطريق إلا لو كان يعرف أصلًا إلى أين يريد الذهاب!، لو أننا أحببناهم وآمنا أنهم أبناؤنا، ما تركنا مصائرهم معلقةً بالمجهول، لكلٍ منا ابن، ما يعنى أن لكلٍ منا عضو ألتراس محتملًا!، قد يخرج من البيت فلا يعود أبدًا، شعور مخيف، لا علاج له سوى حماية كل فرد فى هذا الجنون الذى أعلن صراحةً أنه لا عقل لديه ولا يريد، يحلم بقصاصٍ وحسب، يعرف أنه يريد من يتركه ليمارس بهجته وحسب، لا يمارس السياسة ولا يرغب فيها، لكنه دون أن يدرى يمارس حب الوطن بقوة، حتى دون أن يدرك ذلك.