أحد تجليات ثورة 25 يناير الفنية والثورية الكبرى، كان ولا يزال انتشار فن الجرافيك، وبالضبط كما انطلقت الثورة فى الشوارع محطمة كل القيود، ملأت مشاهد الجرافيك جدران البيوت والعمارات فى كل مكان فى مصر، مشاهد من الثورة ومشاهد للشهداء ومشاهد لأعداء الثورة ولقتلة الشهداء والثوار، وتحتها أسماؤهم بشجاعة لا تظهر إلا فى الثورات العظيمة، كل جدران ميدان التحرير والشوارع حوله صارت لوحات فنية لشباب من الفنانين يصعب حصر أعدادهم وأسمائهم، وبعيدًا عن كعبة الثورة والثوار - ميدان التحرير - وما حولها، تجد ذلك فى كل مكان فى مصر يمكن أن تتسع فيه الرؤية للعابرين،
من الهرم حتى مصر الجديدة ومدينة نصر، وكذلك فى المدن الأخرى مثل الإسكندرية، فأنت على الكورنيش تمشى وجوارك مشاهد الجرافيك التى عبر بها الثوار عما قلته من قبل، صارخة بالاحتجاج على ما فعله أعداء الثورة وفاضحة لأقطابهم وتحتها وفوقها وحولها شعارات تلخص أهداف الثورة بشكل بسيط وحاسم، وتصف كل شخص بما يليق به وما يتناسب مع أفعاله، وهكذا بعد أن ملأ شباب مصر الفضاء على الإنترنت بالثورة، ملأوا الميادين والشوارع بالثورة أيضًا، فضلاً على فعل الثورة نفسه التى خرجوا إليها يطلبون النصر أو الشهادة دون أى حسابات مسبقة، غير رفعة وكرامة الوطن، والمعارك القادمة كثيرة، وسيظل الجرافيك صرخة الفن العظيم يملأ جدران بلادنا، وبعضه أو أكثره يصل فى الفن إلى درجة رفيعة من الإبداع، وما أريد أن أقترحه - أو ما أتمناه من فنانى الجرافيك الذين جعلوا الشوارع والميادين مراسمهم - هو أن ينتبه هؤلاء الذين يملأون حياتنا بالأمل إلى أن معركة كبيرة تجرى فى مصر فى السر والعلن، يريد بها أعداء الثورة وسارقوها - من أصحاب الأجندة الوهابية المتخلفة التى لا ترى فى مصر تاريخًا من التقدم والمدنية، بل أرضًا مباحة من الكفار تم غزوها بأفكار لا صلة لها بحياتنا - ردم هذه الأفكار، لأسباب طالما كتبت عنها،
ما أنجزه المصريون منذ محمد على حتى ستينيات القرن الماضى فى الثقافة والفنون والمبانى والسينما والمسرح والفن التشكيلى والأزياء والرياضة والموسيقى وغير ذلك مما يريد الوهابيون كنسه، وعملوا من أجل ذلك أربعين سنة متحالفين مع النظام الغبى منذ السادات حتى مبارك اللذين تحالفا مع منابعهم الفكرية فى الجزيرة العربية، وتركا لهم حرية الحركة بين الفقراء، بل تعمدا إفقار الشعب وتركه يصنع مقابره، عشوائياته، بيده تحت ضغط الفقر، وتركاهم يمرحون فيها بأفكارهم بشرط ألاّ يتقدموا ناحية الخط الأحمر وهم الحكم، الآن ركبوا على الثورة إلى ما بعد الخط الأحمر، وهو الحكم، فظهرت طبيعة أفكارهم المعادية لجوهر الحضارة، الذى هو الإنجاز الثقافى للأمة، هذا الإنجاز الذى أشرت إليه وأشرت إلى مجالاته التى كانت مصر هى علم الأمة العربية فيها، وإليها يهاجر كل المظلومين من العالم العربى والعالم أيضًا لأكثر من قرن ونصف القرن، ويبنون مع المصريين فنهم وصحافتهم وثقافتهم العصرية التى لا تتحملها حكومات بلادهم، هذا التاريخ العظيم صار الآن مطويّا فى الكتب وليس كل شخص يعود إلى الكتب، وصار كثير من مظاهره فى الأفلام القديمة وليس كل شخص يعود إلى الأفلام القديمة، وصار فى متاحف الفن التشكيلى، وليس كل الناس يذهبون إلى هذه المتاحف، التى بدورها يخاف الكثيرون من القائمين عليها،
فيخفون اللوحات التى قد تتعرض لحماقة بعض هؤلاء، وهابيى الفكر والسلوك، هنا أتذكر الجرافيك وبراعة ومواهب شباب الثورة المحلقة فى السماء فى هذا الفن، الذى بدا فى كل أيام الثورة وحتى الآن كأنه أمر سهل وعفوى وطبيعى رغم ما يحتاجه من مواهب، أتمنى على هؤلاء الشباب أن يملأوا جدران مصر بصور من تلك السنوات العظيمة التى نهضت فيها نهضة رائعة حتى استقر فيها حكم العسكر والوهابيين فى الشارع، فمسخها وأخرجها عن مدارها العظيم الذى كانت تدور فيه، أتمنى أن أرى على جدران الشوارع والميادين لوحات من الجرافيك لعظماء هذه الأمة ومفكريها وفنانيها، منذ رفاعة الطهطاوى حتى الآن، أتمنى أن أرى لوحات لفنانيها منذ الشيخ سلامة حجازى حتى الآن، ولرساميها ونحاتيها منذ مختار حتى الآن، وأهل السينما منذ أول ممثل وممثلة وأول مخرج مصرى حتى الآن، وأكبر كتابها فى الرواية والشعر والقصة، وأكبر صحفييها وأكبر علمائها المتنورين فى الدين مثل محمد عبده، وأكبر قرائها للقرآن مثل الحصرى ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط، وأكبر منشديها مثل النقشبندى وغيرهم الكثيرين جدّا، الذين كانوا أصواتًا لبلد مستقر على ضفاف النيل، وليسوا أصواتًا من الصحراء يغلب عليها السرعة فى نبرات الصوت والصراخ، وهكذا فى كل ميادين الحضارة الحقيقية، وطبعًا نضم إليهم عظماء السياسة والاقتصاد وغيرهم ممن جعلوا مصر بلدًا متحضرًا بين الأمم المتحضرة عبر التاريخ،
أتمنى أن أشاهد «جرافيك» لأفيشات الأفلام القديمة وشكل صفحات الصحافة القديمة والإعلانات القديمة والمسابقات الرياضية التى كانت تقام فى الشوارع الواسعة والميادين ونهر النيل مثل مسابقات الدراجات والقوارب ومسابقات ملكات الجمال على الشواطئ وأشكال الشواطئ قديمًا ولوحات لأشهر العمارات القديمة وشكل المقاهى وشكل الأرصفة القديمة، وكل ما كان يجعل مصر دولة تتنفس فى فضاء من المتعة والراحة والجمال، أعمال فنية كهذه ستجعل من لم ير هذا العصر يفكر: هل كانت هذه مصر بحق؟ وهل كان هذا يحدث فى مصر بالفعل؟ وبدلاً من الحديث عن تجارب الأمم الأخرى التى نريدها لبناء حياتنا السياسية والثقافية، سيعرف الجميع أن مصر كانت فى قلب هذه الأمم، بل إن كثيرًا من هذه الأمم يومًا ما جعلت من التجربة المصرية طريقًا لها للتقدم والرقى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة