لا تتوقف تلك البلاد البعيدة عن إصابتك بالدهشة، دهشة لا تقل عن مثيلتها التى أصابت أجدادك القريبين حين خطوها للمرة الأولى، وقتما اعتبروها دوماً مدينة للجن والملائكة، حيث جنون الشبق ورحمة الألفة، حين يكون الجمال مستقراً بصيغ متعددة لا تتوقف عن استعراض نفسها، ولا تمل من إصابتك بالدهشة!
فاجأ الجمهور الفرنسى العالم كالعادة، وذهب بصندوق انتخاباته من اليمين إلى اليسار، باختيار يبدو بوضوحه الفج مدهشاً فى حد ذاته! فها هو ناخب يعيش فى العالم المعاصر، يتأثر بكل ما تقدمه له «الميديا» الحديثة بأنواعها المتعددة، وبتأثيرها الجبار، وبنواياها غير البريئة فى كل الأحوال، لكنه «الناخب» لا يزال قادراً على إدراك احتياجاته، وتحديد الاتجاه السياسى الذى يلبى ببرنامجه هذه الاحتياجات، وكذلك بالأشخاص الفاعلين فيه، القادرين على تحويل الاحتياجات وآليات تلبيتها إلى حقائق على أرض الواقع. هو اختيار فى حد ذاته لا يتصف بالديمومة، بل هو أقرب إلى الاختبار المؤقت، الذى سيحسم نسبة نجاحه الاحتكام إلى صندوق الانتخاب مرة أخرى ليست بالبعيدة!
ألم أقل لكم إنها بلاد قادرة على إثارة الدهشة؟!
الدهشة وحدها ليست ما يصيبك حين تتابع مجرى الانتخابات الرئاسية الفرنسية ونتائجها، إنما الألم أيضاً، فما الذى ينقص بلادى كى تكون على المستوى نفسه؟ تجرى فيها الانتخابات الرئاسية باعتبارها جولة فى عمر الوطن ليس إلا، وليست نهاية للعبة الكراسى الموسيقية، حيث يفوز المحظوظ بالكرسى، ليستولى على الدفة للنهاية، ولا يكون أحد قادراً على إعادتها مرة أخرى! فيختار الاتجاه والطريق كيفما يريد، ويلقى بالسفينة بعيداً عن قدرة أى أحد على إعادتها! ماذا ينقصنا كى نكون جمهوراً يؤمن بأنه سيعود إلى صندوق الانتخاب مرة أخرى بعد أربع سنوات؟ وأن اختيار من سيحكمنى هو فى ذاته عبء ومسؤولية ومشاركة منى فى حكم الوطن؟ وأن الجالس على الكرسى هناك فى قصر القبة ليس بعيداً عنى، اختارته الأقدار كى يمنحنى عصراً من السعادة والأمن والرفاهية، أو عهداً من الظلم على أن أختبره باعتباره قضاء وقدراً؟! أن الجالس هناك ذهب بإرادتى وأن فى سلطانى أن ألقى به بعيداً وقت الاختيار من جديد؟.. متى يصبح كل ذلك قناعة عند ناخب يشعر بالمسؤولية حين يفكر ليختار، وحين يعمل عقله للتمييز بين البرامج الانتخابية، وإرادة جماعية قادرة على الاتحاد لإيصال من يمثلها إلى الحكم، وواعية للإطاحة به عبر الانتخاب حين يخالف مصالحها التى تدركها هذه الجماعة أصلاً؟
الدهشة والألم ليسا كافيين لعبور المشهد، فانتخابات فى بلاد مثل فرنسا تحاصرك عبر كل وسائل الإعلام، لتفرض عليك إحساساً بالغيرة يكتم على أنفاسك حتى تذهب إلى فراشك، وربما يحاصرك هناك أيضاً لو أنك حلمت بأنك ناخب فرنسى، ثم تصحو فى الصباح لتكتشف أن الطريق إلى صندوق الانتخاب لا يزال طويلاً.. فقط لأنك تعيش فى مصر، لكن فى المشهد إضاءة تبدو خافتة، إلا أنها تزداد لحظة بعد أخرى، كل ما تحتاجه كى تبدو ظاهرة فى الخلفية، هو عبث أقل فى المشهد الانتخابى، لابد سيحدث لو استمر الجدل بالحماس نفسه، جدل يستهدف الوصول إلى لغة للخطاب تتصف بوضوح الرؤية، وآلية لنقاش لم نختبره يوماً لاختيار رئيس! ونية صافية للعبور بالوطن إلى بر أمان لا نجاة لنا جميعاً إلا به.
والحقيقة أن الإعلام المصرى بكل ما فيه من عيوب يدركها صناعه قبل متلقى إنتاجه، هو إعلام يمر الآن بلحظات قد تشكل ميلاداً جديداً له، ففى خضم السعى وراء نسب مشاهدة عالية، عن طريق استثمار الحدث الأهم الآن وهو الانتخابات الرئاسية، يكتسب هذا الإعلام بصناعه ومستثمريه والقائمين على نقده، خبرات جديدة تمنحه يومياً نضجاً غالباً ما كان سيكتسبه لو لم تكن الأحداث بهذه السخونة.
وربما يأتى اليوم قريباً، الذى سنسير فيه على الطريق نفسه: طريق الاختيار «الحر» للرئيس، وإعلام.. يساعدنا فى الاختيار، على أن نصحو لنجد أنفسنا فى مصر.. لا فرنسا!