إبراهيم عبد المجيد

قوانين الفن «1»

الجمعة، 11 مايو 2012 07:54 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل يعرف الذين يريدون الآن وضع قيود على الآداب والفنون شيئا عن القوانين الحقيقية التى تقوم عليها الآداب والفنون؟ قوانين الآداب والفنون مستقلة عن قوانين المجتمع، لأنها قوانين تتعلق بالجمال كقيمة إنسانية فطر الله الناس عليها، وإلا ما كنا كرهنا القبح فى كل شىء. سأسوق هنا بعضا من هذه القوانين التى لا يعرفونها، وأبدأ بالشعر. أول هذه القوانين وبعضها بالمناسبة لم يضعها أحد مثل أن الأديب أو الفنان هو شخص غير متوافق مع المجتمع والحياة. الشخص الذى لا يشعر بالقلق والذى يعيش راضيا سعيدا بما حوله لا يفكر أن يمارس الإبداع الأدبى أو الفنى؛ فالفنان يريد دائما أن يتجاوز ما حوله ويعبر بالكتابة أو أى نوع من الفنون عما لا يراه الناس، أو يرونه ويغفلون عنه. وفى ذلك لا يسلك الطرق العادية. فالشاعر مثلا لا يقدم لك كلاما له معنى مباشر، ولكن يقدم لك صورا تشعر بها وتراها قبل أن تفهمها. فحين يقول امرؤ القيس «مكر مفر مقبل مدبر معا» يرتبك الشخص العادى فى هذه الصورة للفرس؛ فيتبعها الشاعر بالفطرة بالشطرة الأخرى لبيت الشعر قائلا «كجلمود صخر حطه السيل من عل». فتتضح الصورة أكثر. وفى كل الأحوال هو هنا يقدم صورة ولا يقدم كلاما مرسلا. إذن هو فى منطقة الرؤية وغالبا ودائما تأخذ الرؤية الشاعر إلى ما لا يراه ويعقله الآخرون، وكل بقدر موهبته. فالابتعاد عن العادى فى الرؤى هو ما يجعل الشاعر أشعر من غيره. وفى كل الشعر العظيم تقف مندهشا سعيدا أمام هذه الرؤى التى لا يصل إليها الشاعر العادى فما بالك بالإنسان العادى وتشعر بقيمة الجمال. لقد أبدع العرب القدامى فى الشعر وانطلقت مواهبهم فتجاوز الشاعر كل الأعراف بدءا من التفكير فى الحياة والطبيعة من حولهم إلى التفكير فى الكون نفسه. ثم لأن الشعراء لم يكونوا يملكون غير شعرهم، لم يتركوا شيئا حولهم أثار أرواحهم إلا كتبوا عنه، ومن هذه الأشياء الحب والجنس فهو رافد رئيسى فى الحياة البشرية، بالضبط كما كتبوا فى السياسة ومكارم الأخلاق. فالنابغة الذبيانى هو الذى وصف امراة المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وصف المجرب كما قال عنه خصومه الشعراء للملك، حتى إنه وصف عضوها الجنسى وصفا غير مسبوق فى معلقته. «فإذا لمست لمست أجثم جاثما متميزا بمكانه ملء اليد. وإذا طعنت طعنت فى مستهدف رابى المجسة بالعبير مقرمد. وإذا نزعت نزعت عن مستحصف نزع الحزور بالرشاء المحصد، وإذا يعض تشده أعضاؤه عض الكبير من الرجال الأدرد».

فى الوقت الذى وصف فيه امرؤ القيس وضع خليلته وهى معه فى الفراش وترضع رضيعها «فانصرفت له بشق وتحتى شقها لم يحول» كذلك فعل عمر بن أبى ربيعة فى وصف النساء فى الحجيج ومغازلتهن وهكذا. على الجانب الآخر كان هناك شعراء الحب العذرى المشاهير قيس بن الملوح أشهرهم طبعا وقفوا عند جمال المرأة وروحها. وهكذا. وكل هؤلاء قدموا صورا تخصهم وحدهم وليس مطلوبا من كل الناس أن يفعلوا مثلهم لأن الموهبة لا تتحقق لكل الناس والموهبة هى التى تجعل الشاعر مختلفا وسابقا للناس العاديين فى الرؤية. والذى يقرأ هذا الشعر على اختلاف أنواعه يعجب بجمال الصورة أكثر مما يعجب بمعانيها إذا كان متذوقا للشعر وإن لم يكن فهو يقف عند المعانى وقد تعجبه أو لا تعجبه وفقا لظروفه النفسية وتربيته الاجتماعية التى لا تلزم غيره الذى له ظروف أخرى وتربية أخرى.

لقد شهد الشعر العربى فى العصر الجاهلى وكل العصور الإسلامية تألقا فى كل أنواعه، وقيل أن الشعر هو ديوان العرب لأنهم لم يكونوا يعرفون غيره بشكل واسع أو بقدر اتساعه، وذاعت قصائد فى الحب والهجاء والحرب والجنس أيضا كما أوضحت كتب التراث العربى مثل الأغانى وعيون الأخبار وغيرهما حافلة بها، ولم يقل أحد للشعراء اكتبوا فى هذا ولا تكتبوا فى هذا. وإن كان بعضهم قد قتل فكان ذلك من الحاكم الذى وصل الشعر إليه شخصيا، ولم يكن ممكنا لحاكم يملك ويحكم وفقا لتقاليد القبيلة أو الحكم الإسلامى فيما بعد أن يتحمل الانتقاص من قدره، لأن الشعر يذيع فى المحافل بسرعة وينتقل بين الألسنة.

جرى على الشعر العربى تغير كبير فى العصر الحديث فى شكله بعد أن ضاقت القصيدة العمودية على المعانى الحديثة وظهرت قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر. لكن وهذا غريب جدا، فالشعر الذى احتفى بالجنس قل كثيرا جدا وكاد ينعدم. لا أعرف قصيدة حديثة تتحدث عن عضو جنسى لامراة أو رجل. ولم يكن ذلك لموقف أخلاقى من الشاعر، ولكن لأن قضايا أخرى صارت تفرض نفسها مثل الاغتراب فى الأوطان وضياع الأوطان نفسها وغيرهما مما يطول فيه الحديث. حاول أنصار القصيدة العمودية اتهام أصحاب الشعر الحر بالعداء للعروبة وانتصر الشعر الحر. وحاول ويحاول أنصار الشعر الحر اتهام قصيدة النثر بالعداء للعروبة والقومية وتتقدم قصيدة النثر. وهذه المحاولات كلها هى حروب يشنها أصحاب كل مذهب ويجدون فى السياسة سلاحا. لكن فن الشعر يتقدم غير مبال، وفى كل المدارس لا يتوقف الشعر أبدا عن أن يكون صورة ممتعة ومؤثرة وجميلة ومتفردة بحسب موهبة صاحبها. والذى يقرأ الشعر فى كل العصور يعرف أن هذا كله خيال الشاعر ورؤاه لا يخصه منها كقارئ إلا الجمال فى صورها. لماذا إذن يريد أصحاب أفكار القيود على الفن وضع هذه القيود؟ لأنهم ببساطة لا يفهمون معنى الشعر، ويتصورون أنه كلام مرسل ونصائح ومواعظ وهذا هو التخلف بأجلى صوره، لأن كل شخص يستطيع أن ينصح ويعظ، لكن ليس كل شخص يستطيع أن يصور ويصل إلى الجمال. بل اختصار الشعر فى نصيحة وموعظة هو القبح نفسه. وإذا حدث ذلك فى الشعر فيكون فى صورة لها أكثر من معنى، أو لها معنى ظاهر ومعنى خفى أعمق لا يدركه القارئ العادى. انظر وتمعن فى قول المعرى مثلا «خفف الوطأ ما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجساد». أو قول المتنبى «يموت راعى الضأن فى جهله ميتة جالينوس فى طبه». أو قول طرفة بن العبد «لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد» أو قوله «ألا أيها اللائمى أشهد الوغى وأن انهل اللذات هل أنت مخلدى» وأنا أضرب هنا أمثلة بالشعر القديم الذى لا يعرف هؤلاء الأعداء للفنون غيره، ولا أظن أنهم يعرفونه جيدا، وقل لى ماذا تفهم من هذا الشعر غير معان فلسفية وجودية قبل أن تظهر الوجودية فى الفلسفة.

القارئ العادى سيجد الحكمة فى هذا جميلة، والقارئ غير العادى سيراها موقفا ورؤية للوجود، والاثنان سيفتتنان بالصورة قبل المعنى. ابعدوا عننا، ربنا يخليكم وتأملوا قول طرفة «أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة.. وما تنقص الأيام والدهر ينفد» يعنى اعرفوا ربنا لأنه هو الذى خلق الشعراء وأعطاهم الموهبة ليكونوا مختلفين عن غيرهم ومتفردين بينهم.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة