فاطمة ناعوت

يوميّات مَيِّت من أبناء مصر

الثلاثاء، 15 مايو 2012 03:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«أمين» شابٌّ مصرىّ بارٌّ بوالدته، ويقوم مقامَ الأب الراحل لأشقائه. موظفٌ يساير ركبَ زملائه فى ممالأة المدير، والتوقيع على مناقصات غير قانونية. وذات «صحوة»، ثار على رئيسه، ورفض التوقيع، وانتقد زملاءه الخانعين. وفى غمرة غضبته، تضربه أزمةٌ قلبية.

ها هى الروحُ تتحرّر من إسار جسد يرقد فوق طاولة، ومشارطُ أطباء تحاول استعادته لدنيانا: «دنيا الأحياء». يهبطُ ملاكان لمرافقة الروح لبارئها. يرفض «أمين» تصديق موته. وبعد جدل فلسفىّ، يدركُ الملاكان أن الميّّتَ يُنكر الموتَ لتزامنه مع «صحوته» الأولى التى انتفض فيها ثائرًا على الخطأ، بل كان الرجلُ ميّتًا، طوال مسايرته القطيع، ولم يصحُ إلا حين ثار. الميتُ لا يعترف بالموت الفيزيقىّ، إذ تزامنَ مع الصحو الروحىّ، ويقرر الملاكان منحه فرصة العودة إلى الأرض، «روحًا». فإذا ما قرر، من تلقاء ذاته، أن يصعد إلى بيته الأبدىّ فى السماء، فما عليه سوى مناداة الملاكين.

يستأنف «أمين» حياته، فيذهب إلى عمله فيسمعُ زملاءه يشيدون بجسارته بالأمس مع المدير مقررين أن يحذوا حذوَه، ليصحوا من ميتتهم الروحية. لكنهم يضعفون حين يرشوهم المدير بمكافأة، فيستأنفون مواتهم! ثم يشهدهم يتأهبون للذهاب إلى جنازته، فيصدق أنه «مات»! ويتأكد له موتُه حين يعود بيته فيرى أمَّه متشحةً بالسواد، لا تجفُّ دمعتُها، ومثلها حبيبته «سما»، التى لم يجرؤ أبدًا أن يعلن لها حبَّه، ذاك أن حياته كلَّها كانت «مؤجلة» إلى لحظة غير معلومة.

تستمر رحلةُ الميت الأرضية حتى يأتى المشهد العمدة Master Scene، حيث حافلةٌ للنقل العام تضمُّ كلَّ شرائح المجتمع المصرى، بكل مشاكله وتناقضاته وسلبياته وإخفاقاته، وكذا بوعى وثقافة بعض نماذجه التى أبت السيرَ مع القطيع المُشوَّه، فانشقّت عنه لتسعى نحو الاستنارة والتحضّر. نجد الأم التى تشكو عقوق أبنائها. والمهاجرَ إلى بلاد النفط لعمل الثروة فيعود إلى وطنه ليجد ابنه وقد قتلته الأطعمة المسرطنة التى أنبتها النظامُ السابق. نجد العانس الجميلة التى ناهزت الأربعين ولم تجد من يؤنس دربها الموحشَ. والفتاة التى تعانى من تحرّش ذكور لا يرون فى المرأة إلا آلة متعة. نجد تاجر الدين الطامع فى حكم مصر، فى مقابل المثقفة الباحثة عن جوهر الأديان الذى يُجمّع الناس، نجد الشاب العدمىّ اليائس من الثورة والموظف المطحون لا يدرى كيف يدبّر أمر بيته براتب هزيل. ثم تبرز المحنةُ فى قائد الحافلة ضعيف البصر ولا يسمع ولا يتكلم! فى إشارة رمزية إلى أن الفساد يكمن فى الرأس، ثم يقتحم الحافلة قاطعُ طريق يأمر الركّاب بإعطائه ما يملكون، فيستسلمون! وفى خضَم السلبية ينبثقُ الأملُ فى شقيقة «أمين» الرافضة انهزامية المجتمع وخنوعه. يهمُّ المجرم بصفعها، فيدافع عنها الشقيقُ الميت. الذى يُعلن أخيرًا رفضه الانتماء لهذا العالم الموبوء، وينادى الملاكين ليصعدا به إلى حيث عالم المثُل والنظافة والعدل والجمال. حين تجتمع الكوميديا بالعمق الفلسفىّ، يكون أوجُ الاكتمال المسرحىّ. وهو ما لم نعد نشهده فى مسرحنا الحديث إلا على يد الفنان محمد صبحى، لا سيما فى التقائه مع السيناريست المثقف لينين الرملى، اللذين كانا امتدادًا للمسرح المصرى الراقى الذى بدأ مع الريحانى وبديع خيرى واستمر مع مدبولى وفؤاد المهندس، لكن مصرَ لا ينضبُ فيها الفنُّ أبدًا. ها هم مجموعة من الشباب المصرى الواعد كوّنوا فرقة مسرحية اسمُها «معًا نبنى»، بقيادة رفيق سمير، وكان عرضهم الأول المسرحية الراقية «يوميات ميّت»، على مسرح «روابط» بوسط البلد. تحيةَ احترام لفريق العمل الذى كتبه وأخرجه ناجى عبدالله، وللشاب الواعد مينا ملاك، الذى أدّى دور الميت بحِرَفية عالية، وتحية احترام للأستاذ حمدى عبدالمنعم لأدائه المبدع دور رجل الدين، وللصوت العذب ميراج حسنين التى كانت الجوقة التى تمثّل صوت الراوية. ننتظرُ أن نشهد المسرحية على جميع مسارح الدولة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة