كثيرا ما تصلنى رسائل من بعض القراء أهتم بقراءتها والرد عليها إن كان هناك ما يستوجب الرد، وعادة ما أرى فى هذه الرسائل علاقة خاصة بينى وبين القارئ الكريم، ولكنى وقفت عاجزة هذه المرة أمام رسالة وصلتنى بعنوان، من أم مجهولة لشعب مصر، فلا أنا استطعت الرد ولا أملك أن أعتبرها رسالة خاصة من قارئة إلىَّ، ولذا فلا أملك إلا أن أنشرها، ولتكن أنتَ وأنتِ الحكم والمجيب عن سؤال لم أعرف له إجابة.
بعد التحية،،،
بدون مقدمات لا أعرف ما الذى يدفعنى لأن أرسل إليك أنتِ بالتحديد هذه الرسالة، وهى المرة الأولى التى أكتب فيها ما يدور بعقلى لأى أحد، ولكن عقلى هذه المرة لا يستوعب ما أحياه من مشاعر غاضبة ومنكسرة وحزينة، لذا فربما يكون هذا سببا فى قرارى بأن أرسل لكِ رسالتى تلك.
سيدتى أنا زوجة وأم لشاب يافع وفتاة فى عمر الزهور أعمل بوظيفة مرموقة، وكذلك زوجى ونحن ممن يطلق عليهم الشريحة العليا المتوسطة من المجتمع المصرى، سواء ماديا أو اجتماعيا، فنحن أسرة مستورة الحال والحمد لله.
ورغم اهتمامى الشديد بعملى ولكنى على مدى حياتى منذ تزوجت لم أنس أبدا أن مهمتى الرئيسية فى الحياة هى كونى أما، ولذا فقد اجتهدت قدر استطاعتى، بل أكثر مما أستطيع أحيانا فى تربية أبنائى على خير وجه، سواء علميا أو أخلاقيا أو دينيا، ولم أكتفِ بأن أوجههم للخير، ولكنى كنت أنا وأبوهم دائما قدوة حسنة فى زمن سيئ، علمتهم القناعة فى زمن الشراهة، علمتهم الصدق فى زمن الكذب، علمتهم الاستقامة فى زمن الاعوجاج وأشياء أخرى كثيرة يلوموننى عليها الآن وقبل بعض الوقت.
أزمتى بدأت قبل الثورة بأسابيع قليلة حين فاجأنى ابنى الشاب بأنه قرر الهجرة ولن يتراجع، صرخت فيه، لماذا وأنت مقارنة بغيرك فى أحسن حال؟ لماذا تترك بلدك وتهاجر لبلاد تعرف مسبقا أنها ستكرهك لاسمك العربى ولدينك، لماذا؟ ألست تعمل فى مهنة محترمة؟ ألست تملك سيارة حتى لو كانت نصف عمر؟ ألست تعيش فى بيت جميل ولك حياة يحسدك عليها الكثيرون؟ عشرات من الأشياء قلتها مهاجمة فكرة الهجرة ولكن ابنى رد على بما أذهلنى حين قال: نعم عندى عمل لم أستطع أن أحصل عليه إلا بالواسطة، وأذهب له كل يوم ولا أتعلم شيئا، وكل زملائى أبناء مسؤولين لا أحد فيهم يفعل شيئا نافعا، وكل مهمتهم نفاق المدير الذى لا يعرف شيئا وكل مهمته نفاق الوزير الذى تعرفين أنتِ أنه فاسد، الناس فى هذا البلد يحقدون على بعضهم البعض والفساد فى كل مكان ولا أمل فى إصلاح، أنت من أفضل العاملين فى مهنتك وتعانين لأنك مستقيمة وكذلك أبى، ليتكما ما ربيتمانى على ما كبرت عليه ربما كنت استطعت التعايش فى هذا البلد!!!
صرخت فى وحيدى ولكن بلا جدوى فقد قرر الرحيل، ومرت أسابيع وجاء يوم 25 يناير 2011 يومها وجدت ابنى عائدا مع بعض من أصدقاء طفولته وكلهم زينة شباب مصر بعضهم مجروح، وكذلك ابنى ولكنهم رغم الجروح فى حالة من السعادة الغامرة، وعرفت أنهم يشاركون فى مظاهرات الغضب وعلى قدر خوفى وقلقى عليهم إلا أن سعادتى كانت لا توصف، لأنى شعرت بأن وحيدى خرج لديه الإحساس بالانتماء للبلد الذى كاد أن يكفر بأهلها وناسها وفسادها، أيام وأسابيع ثم شهور شاركت ابنى وأسرتى فى الثورة على الفساد التى عشنا نتمناها، كان الخوف يملأ الناس ولكن كان الأمل يملأ بيتى حتى لو ممزوجا بالخوف.
صار ابنى أكثر إشراقا رغم جروحه أحيانا، صار أكثر تصميما وأملا فى غد أفضل، وقال لى فى لحظة فضفضة: يبدو أن مصر ستعود لأصحابها.
ولكن مرت الأيام على مصر تحمل الكثير مما تعرفينه أنت وأنا وكل المصريين ولا أريد أن أعيد سرد عشرات من المواقف لأنك كثيرا ما كتبت عنها، عادت لتهدم آمالاً بنيناها أثناء الثورة، وبدأت ألحظ نبرة حزن ويأس فى ابنى بعد أمل وإشراق، وكنت أحاول أن أقاومها بحكايات من التاريخ ربما تبعث الأمل.
ولكنى كنت واهمة فالشاب النابه الذى تصادف أنه ابنى ورفاق صباه الذين نزلوا لميدان التحرير بحثاً عن وطن وعيش وحرية وكرامة إنسانية لآخرين من أبناء وطنهم ولم يكن فيهم أحد يبحث عن مكسب شخصى، كلهم كلهم تفرقت بهم السبل بين بلاد أخرى يأساً من قوى سياسية كثيرة راحت تتقاتل، وكفراً بفُرقة أبناء الوطن الواحد، وظهور الطبالين والزمارين فى كل اتجاه الذين ركبوا على أكتاف الثورة يريدون ثمارها دون زرع.
أكتب إليك قبل أيام من سفر وحيدى مثل أصدقائه إلى بلد بعيد وأنا أسأل ألا يحق لى أن أكون غاضبة من مصر التى أبعدت وحيدى عنى؟ ألا يحق لى أن أكفر بكل هؤلاء الذين يصدعوننا ليل نهار على الشاشات متعاركين تمولهم إعلانات السمنة والزيت؟ ألا يحق لى ألا أسامح كل سياسى وإعلامى ومسؤول فى هذا البلد لأن من بين أيديهم وبسبب أفعالهم تسرب من أيدينا بعض من خيرة نبت هذا البلد؟ أجيبينى إن كان لديك إجابة.