هى ليست مريم ابنة عمران التى «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله» ولسنا نحن فى زمن المعجزات، لكن سبحان من لا ينسى عباده، ولا يتأخر فى إرسال محبته كلما قست الدنيا، ومالت على الضعفاء فزادتهم ضعفا.
لم أرها فى حلم، ولم أرسمها من خيال، لكنى وجدتها أمامى، تصفع الشعراء على أقفيتهم، وتسخر من السياسيين وهتافاتهم، وتنهر مدّعى الألوهية والتحدث باسم الرب، لا تتكلم لأن الكلام كثير والفعل غائب، لا تتألم لأن الألم صار مادة للسخرية لا جامعا للرحماء، لا تقول الـ«آه» لأن الآهات صارت أضعف من أن يسمعها أصحاب القلوب الصماء.
رأيتها أمامى هكذا، جالسة كأنها نقش فرعونى مغبر، جلبابها الأسود المترهل بدا كما لو كان رماديا من كثرة ما يلقاه من أتربة ودخان، وجهها المتكسر العتيق من فعل الزمن صار أقوى من الصلب المنقوش، وعيونها الغائرة الباهتة الحزينة توحى لك بأنها فى مكان آخر، وأنها على سفر، وأن المسافة التى قطعتها لتصل إلى تلك البقعة القاسية طويلة وصعبة وشاقة.
كان يوما حارا، وكان السائرون فى شارع عبدالخالق ثروث يهرولون نحو مصالحهم لعلهم يظفرون بما يبرد أجسادهم، بينما هى تسند ظهرها إلى سور نقابة المحامين، وتضع مناديل ورقية هزيلة، لا تتأفف من سرعة العابرين، ولا تغضب من ضآلة جسمها التى ربما حرمتها من أن يراها أغلب اللاهثين، جالسة حزينة صامتة راضية، ارتضت من الظل ما منحته إياها شجرة التوت الممتدة فوقها، وبين حين وآخر، تسقط الشجرة «توتة» بيضاء تسر الناظرين، فتمد يدها الهادئة لتلتقطها، وتنظر إليها بعينيها البعيدة، ثم تضعها فى فمها راضية مرضية.
هو من عند الله، والله رحيم بعباده، حارسهم بكرمه، مانحهم إن قلت المنح وعز العطاء، «توتة» بيضاء، تسد جوع العجوز، وتضع فى فمها حلاوة ربما لم تتذوقها منذ زمن، وتبل ريقها فى يوم قائظ، وتكفيها عناء السؤال، على بعد خطوات منها يقع مبنى «دار القضاء العالى» لكنها ربما لا تعرفه ولم تسمع عنه، لأنها راضية بقضاء الله وقدره، وراء ظهرها نقابة المحامين، لكنها أيضا ربما لا تعرفها، لأنها وكلت الله فى أمرها وهو محاميها الأول والأخير، وعلى شمالها نقابة الصحفيين، لكن ما حاجتها للصحف والصحافة وقد نشرت قصتها فى كل قلوب من رأوها.
فى تلك البقعة الملتهبة من عاصمة مصر، تجلس سيدة، تأكل مما آتاها ربها، تسعى لرزقها وهى تعرف أن الله عادل وكريم، ولا تقنط من رحمة الله لأن الله غالب، كل الحركات الاحتجاجية مرت من هنا، وكل السياسيين والمتكلمين والمتحذلقين والنصابين مروا أيضا، ربما لم يرها أحد منهم، وربما رأوها ولم يعيروها انتباها، لأنها لا ترفع لافتة، ولا تتظاهر ولا تعتصم ولا تتشاجر ولا تظهر فى الفضائيات، لا تريد من أحد شيئا، هى مثل أغلبية الشعب المصرى الصامتة بحق، لا تريد من أحد شيئا، فقط اتركوها لربها العادل، ولا تقطعوا عنها شجر الرحمة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة