الثورة «أى ثورة» كمصطلح سياسى ببساطة تعنى الخروج عن الوضع الراهن وتغييره، وبالطبع فإن هذا يعنى التغيير الكامل من دستور لآخر، وفى مصر فإن «التغيير» فى الوضع لم يكتمل بعد بل إنه مازال فى بدايته حتى بعد مرور سنة ونصف منذ إسقاط رأس النظام، الذى يمكن اعتباره مجرد نقطة الانطلاق الأولى فى «الثورة - التغيير»، لذلك فإن الوهم الذى يروج له الجميع من جميع التيارات والاتجاهات السياسية بأن «انتخاب» رئيس الجمهورية يعنى نهاية الثورة، فالتغيير لن يتم بمجرد وصول الرئيس الجديد إلى القصر الجمهورى أيا كان هذا الرئيس، سواء كان هذا الرئيس من بقايا فلول الذليل المخلوع أو من بقايا فلول ما سبقه من رؤساء أو من فلول الحركات والتيارات المتأسلمة، التى مازالت تتلكأ فى الرحيل عن الدنيا، وحتى لو استطاع ممثل حقيقى للثورة الوصول إلى قصر الرئاسة «وهذا أمر مستبعد لأسباب معروفة للجميع وبنص صريح فى المادة 28 من الإعلان الدستورى» فإن «الثورة - التغيير» لن تنتهى بل تكون قد بدأت مجرد بداية التغيير الحقيقى.
وقد يصور نفاد الصبر الذى يصيب دائما الطبقة المتوسطة بأن سنة ونصف كافية لنجاح الثورة أو فشلها مما يصيب المصريين بالإحباط، لكن يجب أن يتذكر الجميع أن الثورة الفرنسية قد استغرقت عشر سنوات، فقد بدأت منذ عام 1789 وانتهت عام 1799 أحدثت خلالها نتائج حقيقية على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، فقد تم تغيير نظام الملكية المطلقة إلى النظام الجمهورى، وأقر فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير، وتم القضاء على النظام القديم، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالى وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وحذف الحواجز الجمركية الداخلية، كما تم إلغاء حقوق وامتيازات النبلاء ورجال الدين، ومصادرة أملاك الكنيسة، كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم والعدالة الاجتماعية وتوحيد وتعميم اللغة الفرنسية.
أما الثورة الأمريكية التى يمكن اعتبار بدايتها الحقيقية سنة 1773 إلى أن حصل الشعب الأمريكى على الاستقلال 1783 أى أنها استغرقت فعليا عشر سنوات، وكانت نقطة انطلاقها الحقيقية فيما عرف بـ«حفلة شاى بوسطن» فقد كانت أمريكا مستعمرات إنجليزية ولكل مستعمرة حاكم إنجليزى ينوب عن ملك إنجلترا، وكانت السلطات الحاكمة تحت الضغط الشعبى قد رفعت جميع الضرائب، فيما عدا الضريبة المفروضة على الشاى، مما دفع مجموعة من الشخصيات الوطنية على ذلك فى عام 1773 بإقامة ما أصبح يعرف بحفل الشاى فى بوسطن، فتنكر أفراد هذه المجموعة وعددهم 50 رجلا بأزياء الهنود الحمر، وصعدوا إلى 3 سفن تجارية إنجليزية وألقوا بنحو 342 حاوية من الشاى فى ميناء بوسطن، فأصدر البرلمان الإنجليزى قوانين تهدف إلى معاقبة بوسطن، بما فيها إغلاق ميناء بوسطن أمام حركة الملاحة، حتى يتم دفع ثمن الشاى، وتم وضع «حاكم عسكرى» على بوسطن ومنع الاجتماعات إلا بإذن من الحاكم العسكرى، فإذا كانت الثورة الأمريكية قد انطلقت فعليا بخمسين رجلاً يتنكرون فى زى الهنود الحمر فى مذبحة حفل شاى بوسطن، فإن الثورة المصرية المجيدة قد بدأت بملايين ميدان التحرير ومذابح «ماسبيرو» و«محمد محمود الأولى والثانية» و«مجلس الوزراء» و«ستاد بورسعيد» لن تنتهى بمجرد وصول أى شخص إلى قصر الرئاسة، بل إنها سوف تظل متقدة حتى تنجز التغيير التام وحتى لو استمرت عشر سنوات ويومها سوف يقيم الشعب المصرى حفل الشاى فى كل ميادين التحرير، وربما يأكلون البونبون أيضا دون أن يترحموا على الذليل المخلوع أو أى من أذنابه الفلول.