سيتيقن كثير من الناس بعد سنوات قليلة حينما يهدأ غبار الثورة وينفض السياسيون إلى مصالحهم أن أعظم ما أنتجته تلك الثورة هو ما كشفته من فساد وظلم يرقدان تحت ركام من الخطب الرنانة والإعلام الكاذب وسيطرة أمنية غاشمة على مقدرات هذا البلد، ولعل أسوأ ما كشفته الثورة هو تلك القضية التى انشغلنا عنها جميعاً بجدل عقيم حول الفرق بين الإخوان والفلول، أحدثكم عن القضية التى ينظرها القضاء بناء على بلاغ تقدم به أحد الضباط يتهم فيه حبيب العادلى وزير الداخلية المحبوس وقيادات معه فى وزارة الداخلية بتسخير عدد من المجندين والمساعدين فى أعمال بناء وتشطيب وسباكة فى فيلاتهم وقصورهم، وهى تهمة – إن ثبتت - لا تنحصر فقط فى أنها تنافى القانون أو تنحصر فى كونها مجرد مخالفة إدارية تنتهى بغرامة، كما ذكر أحد مساعدى العادلى فى التحقيقات، إنه إهانة لكل مصرى شريف تجرى فى عروقه دماء حرة، ويجب على كل من كان يعمل فى وزارة الداخلية حينها ألا يكتم شهادته عن تلك الجريمة وأن يراجع ضميره جيداً ويتذكر أن احتقار آدمية البشر لا يقل سوءاً عن قتلهم.
ضع نفسك مكان أسرة واحد من هؤلاء المجندين وأنت تجلس فى بيتك مطمئناً على ولدك وهو يقضى واجب الخدمة الوطنية وأنت تظن أنه أصبح رجلاً يتحمل المسؤولية، ولن تطارده تهمة التهرب من الخدمة، ثم تكتشف مع أول إجازة يقضيها معك أن أحلامك عن الرجولة والفخر تبددت أمام سلطة بلا ضمير أو قلب ولا تراعى الله فى مواطنيها فكيف ستحترم معهم قانوناً أو تحفظ لهم كرامة، ضع نفسك مكان أحد هؤلاء المجندين وتخيل أنك تذهب لترى شرف الجندية وخدمة الوطن فتصطدم بغرور القادة وفساد ذممهم، ولا تستطيع أن تلوم هذا الجُندى المسكين على تقبله للإهانة فقد علموه فى البيت والمدرسة والقرية والحارة والمسجد والكنيسة أن مستقبله قد يكون رهنا بإطاعة كلمة من أحد «الكبار» فآثر السلامة وارتضى لنفسه الهوان حتى يضمن سلامة أسرته ومستقبله فى دولة يعمل فيها القانون بالزنبرك ويعرف فيها الطغاة كيف يفلتون من الرقابة ويأمنون العقاب.
لا تظلموا الإنسان المصرى إذا لم يستطع أن يتخلص بالكامل من ثقافة الخوف دعوه يكمل محاولته للنهاية ولا تتعجلوا النتيجة، وأيضاً لا تبخسوا هذه الثورة حقها فيكفيها فخراً أنها حررت عبودية الإنسان المصرى وفكت أغلال القهر التى أحاطت برقبته لعقود مضت، نأمل فقط أن يراعى من يصدعوننا ليل نهار بالحديث عن «الجمهورية الثانية» أن يفهموا الديمقراطية كما نريدها نحن وليس كما يعرفونها هم، فهى ليست تعددا حزبيا ولا حرية تعبير فحسب، كل هذا هراء إذا لم يتوافر معه العدالة واحترام كرامة الإنسان فى وطنه.