كان مشهدا مربكا، أهالى العباسية يغنون يا حبيبتى يا مصر يا مصر، ويهتفون «الجيش والشعب إيد واحدة» أما الجنود فينشدون أغانيهم الحماسية ويرددون «صاعقة.. فداء..
المجد» أما أنصار حازم أبو إسماعيل ومن تبعهم من الثوار، فكانوا يهربون من الشوارع الضيقة والأزقة الخانقة، حاملين جرحاهم، ناعين ضحاياهم، لاعنين من لم ينضم إليهم فى اعتصامهم العبثى، مئات الجرحى، مئات المعتقلين، عشرات القتلى، الدم مصرى بامتياز، والمعركة خاسرة بامتياز أيضا، الكل خاسر والكل مدان، والجميع بمن فيهم شهداء القوات المسلحة ضحايا للأخطاء التاريخية التى ارتكبناها منذ قيام الثورة.
أنعى لكم مشهدا عبثيا، تمكث على أثره فتيات بريئات فى السجن الحربى، وشباب فى قبورهم مغدورين، وجرحى مازالوا يئنون على أَسرتهم، أملا أن تكون هذه المعركة التى خسرها كل الأطراف آخر معاركنا العبثية، إذ لا يعقل أن يموت شباب وتعتقل فتيات دون هدف أو قضية، نعم المجلس العسكرى ظالم قاتل ومستبد، لكن كيف تناصر الثورة التى قامت من أجل دولة القانون، خارجين على القانون!، متهمين بالتزوير، موصومين بالكذب الصُراح، كيف ينضم من هتفوا «حرية.. حرية» إلى من يغلقون أبواب الحرية بأقفال عقولهم الصدئة، كيف يقف السلميون المدنيون المتحضرون مع الإرهابيين الإقصائيين، كيف يجلس من كان يتهم متظاهرى التحرير بالعمالة والخيانة والاستئجار على مقعد منظر الثورة الأول ليطالب الثوار باقتحام وزارة الدفاع وإعدام المجلس العسكرى؟
المشهد مربك حقا منذ بدايته، كان المجلس العسكرى قبله يعانى نزيفا حادا فى شعبيته، بعدما تأكد الجميع من رخاوة يده وعدم استقلال كلمته، غرق المجلس فى بحر الشتائم الشعبية، حينما هرب المتهمون الأمريكان، وأصبح منعزلا بعدما فقد ظهيره الشعبى من الإخوان المسلمين الذين ظهروا فى مظهر الطامع الأول فى كل السلطات، كذلك خسر الإخوان قدرا كبيرا من شعبيتهم بعد أدائهم الباهت فى البرلمان ومحاولتهم المتكررة للاستحواذ على مقاليد الحكم منفردين، كما ظهرت بدائية بعض السلفيين وقلة خبرتهم وارتباك أولوياتهم، وانكشف أيضا بعض مدعى التمدن والليبرالية أمثال محمد أبوحامد، كما ترسب فى وعى الأغلبية أن المجلس العسكرى لا يسعى إلا لمصلحته الشخصية، ونمت فى أذهان الكثيرين ثقافة الفصل بين المجلس العسكرى والجيش المصرى، باختصار بدأ المجتمع فى تطهير ذاته بذاته، ليصطفى من كل فريق أفضله، ويجتثه أخبثه، لتقطع الثورة خطوات واسعة نحو مبادئها السامية الراقية المتحضرة، لكن ها نحن نعود إلى نقطة البداية مرة أخرى غير مأسوف علينا.
الثورة نور واللى طفاها خبيث، هكذا قال شاعرنا الأكبر عبد الرحمن الأبنودى، مشيرا إلى المجلس العسكرى، لكن ها هم بعض المنتسبين إلى الثورة ينضمون إلى طائفة «اللى طفاها» حتى وإن كان هذا «الإطفاء» عن قلة خبرة وعدم وعى، وكل ما أتمناه ألا نهدم ثورتنا بأيدينا وبأيدى المستبدين، وألا ندخل فى مغامرات تنال من رصيدنا النقى، وألا نعتصم مرة أخرى إلا فى حالة الضرورة القصوى وبعد أن نحدد أهدافا جامعة للاعتصام، كما أتمنى ألا ندخل اعتصاما مرة أخرى إلا بعد تحديد قيادته وتسميتها والاتفاق على أهدافه ودراسة دوافعه.
رحم الله شهداءنا من أهالى العباسية وجيش مصر وثوارها، ونسأل الله أن تكون العباسية آخر معاركنا الخاسرة.