ليس هناك كائن ما كان، سواء أكان قديما أم حديثا، يستطيع أن ينكر قيمة الفن بكل صوره، وحسب مقومات عصره. فالشعر فى زمن الجاهلية كان وسيلة سيادة على العرب، فالأكثر والأجزل شعراً هو صاحب الصولات والجولات، ومثله الغناء والموسيقى وغيرهما من الفنون، كل فى عصره. أما فى عصرنا الحديث، فمن المؤكد أن السينما هى الفن الأكثر شعبية، والأكثر تأثيرا، ولحقها التليفزيون كوسيلة لمشاهدة السينما، وغيرها من الفنون الأخرى.
ومن العبث- ونحن الآن فى عصر الفيمتو ثانية- أن نناقش أهمية القوى الناعمة فى حياة الشعوب، خاصة أن جميعنا يعرف أن أمريكا، القوة العظمى، قبل أن تنشر قواعدها وجيوشها فى العالم قد نشرت سينما هوليوود وحكاياتها، فاحتلت قلوبنا وعقولنا وأفيشات الشوارع، وصارت صور نجومها تحتل حوائط غرف المراهقين فى كل العالم، شرقه وغربه، ولم تقف اللغة عائقاً أمام هذا التواصل، حتى لمن يجهلونها. وعرفت أمم أخرى قيمة السينما، مثل الهند التى حققت من خلال أفلام بوليوود منافساً شرساً يطيّر عقل أمريكا من قبل أن تطيرها القنبلة النووية.
ولا يستطيع متابع إنكار الحرب الدائرة بين دول أوروبا، كفرنسا وإنجلترا وغيرهما، مع السينما الأمريكية، ومحاولة تصدر مشهد القوة الناعمة، بنفس قوة الصراع على تصدر المشهد السياسى والحربى فى العالم.
وليس أدل من مشهد الاحتفاء الرسمى والشعبى فى فرنسا وإيران على اختلافهما بالفوز بجائزة الأوسكار هذا العام لأفضل فيلم لفرنسا عن فيلم «الفنان»، وجائزة أفضل فيلم أجنبى لإيران عن فيلم «انفصال»، ففرنسا الليبرالية العلمانية شعباً وحكومة تحتفى بالفوز السينمائى على أمريكا فى عقر دارها، وهو نفس ما تفعله إيران الإسلامية العقائدية التى يحكمها الملالى، والتى اعتبرت فوزها بهذه الجائزة فوزا على الصهيونية وإسرائيل التى كانت تنافسها على جائزة أفضل فيلم أجنبى.
وبينما يبدو العالم فى هذا المشهد التنافسى على احتلال العقول والقلوب، نجد أنفسنا كعرب فى حال آخر غير الحال.
ففى مشهد عبثى متناقض فى دول عربية تحررت أخيراً من قبضة الطغاة، نجد دعوات بتحريم السينما خاصة، والفنون عامة، بل وصل بالبعض فى مصر أن أفتى حتى بحرمة لعب كرة القدم، وطالب بحرق كتب نجيب محفوظ، لأنها على حسب زعمه تروج للدعارة!
تناقض لا أستطيع، ولا أريد أن أتفهمه، فكيف بدول مثل مصر وتونس بكل تاريخهما المتفتح الحاضن للفنون، الرائد فى الثورة على المقبول من آخرين، أن تخرج منهما دعوات تحرّم الإبداع بكل أشكاله؟! وكما خرج من مصر من يقول على أدب محفوظ، صاحب نوبل، إنه أدب داعر، خرج من تونس وزير يرفض أن تشارك فى مهرجان قرطاج العريق أصوات عربية جميلة وقيمة، مثل شيرين المصرية، أو أصوات خفيفة مرحة مثل نانسى عجرم اللبنانية.
كنت وغيرى من المراقبين للمشهد المجتمعى والسياسى أتفهم ما كان يحدث قبل الثورة أحياناً، من انطلاق لدعوات شاذة لتحريم كتاب ما أو مسرحية، أو تكفير هنا وهناك، كنوع من شذوذ الفكر النابع من القهر السياسى والأمنى الذى يتعرض له المتأسلمون، فبدت فتاواهم وتصريحاتهم كأنها صرخات تحاول أن تقول نحن هنا.. هكذا كنت أفهم جزئياً الأمر، إضافة بالتأكيد لتراكم من التطرف الذى مسك بأوصال العالم، ولم يسلم منه الإسلام بسماحته.
والآن أعترف أننى كنت مخطئة فى هذا التحليل والتفهم، لأنه لا شىء فى المشهد السائد التالى للثورة يحمل قهراً أو عنفاً تجاه المتأسلمين، بل على العكس لقد صاروا أقرب للحكم الكامل لبلاد الثورات، فما عاد القهر ولا الخوف يشفعان لهم شذوذ الفكر.
ومن العجب أن المشهد المصرى العام الملتبس، والذى يبدو منفلتناً سياسياً على عكس ما كان، يقابله مشهد فنى وثقافى أكثر التباساً وتعرضاً للقهر من جانب المتأسلمين، وكأنهم يُفرغون شحنة غضب تجاهه، غير مدركين أن قيمة الأمم تقاس بفنونها قبل سياساتها، وبفنانيها قبل ساساتها، فكلنا يعرف ويحفظ أسماء نجوم فى الغناء والسينما والأدب وتاريخهم، ولكننا قلما نذكر الحكام فى زمنهم.
ورغم إعلان جماعة الإخوان المسلمين عن قرارها بإنشاء شركة للإنتاج الفنى، فإننى على يقين من أنه سيكون فنا موجها، يتساوى مع كل الفنون التى كانت توجهها أنظمة للترويج لنفسها، فلم يبق منها فى ذاكرة الناس شىء، فهل يذكر المصريون أو أى عربى أغنية قيلت فى احتفالات رئاسية فى بغداد لصدام حسين، أو فى تونس لبن على، أو فى مصر لمبارك؟!
الفن لا ينمو ويزدهر إلا بالحرية، حتى وإن حاد البعض بحريته عن المألوف، ولكننا خرجنا من قهر سلطة سياسية كانت تلوح لنا بسوط الأمن، إلى قهر سلطة تلوح لنا بسوط الحلال والحرام والجنة والنار.. فماذا نحن فاعلون؟