الرواية والشعر يتحققان باللغة، السينما تتحقق بالصورة، اللغة فى الشعر تسعى لتحقيق صورة، الصورة فى السينما تسعى لتحقيق شعر، والجميع يسعى لتحقيق الموسيقى، فالموسيقى هى أعلى درجات الفنون، لأنها بناء دون مادة يمكن أن تراها أو تمسكها فى يدك، السينما وهى تسعى إلى صورة لا يكون الكلام موضوعها الرئيسى.
ولذلك مثلا تتحقق فى السينما الصامتة درجة أعلى من الفن. فالمخرج بالصورة وحدها يسعى لتحقيق المعنى، وتقديم الشخصية، تفسيرها واستجلاء انفعالاتها، لكن الذين اخترعوا السينما الصامتة وهم يعرفون ذلك، أدركوا أن المتفرج مهما بلغت ثقافته يحتاج إلى حديث يسهّل عليه التلقى، ويساعد أكثر فى تحقيق الشخصية والحدث. ليس كل متفرج سيفهم أو يشعر أن مشهد سلالم أدوديسا مثلا فى فيلم المدرعة بوتومكين يعبر عن طول الزمن وثقل إحساس الثوار به وهم يطاردون بالرصاص من قبل الحرس القيصرى الروسى، هكذا جاءت السينما الناطقة، لكن ظلت الصورة هى الأداة الأولى لهذا الفن، كل مايضاف إليها يعطيها أبعادا أكبر ولا يتفوق عليها، فمثلا الغناء يعطى نوعا من المتعة الإضافية كما فى الأفلام الغنائية ويعطى نوعا من الملحمية للمشهد كما ترى فى المشهد العظيم لشادية فى فيلم شىء من الخوف وهى تفتح المياه للفلاحين لرى الحقول، أو فى المشهد العظيم الآخر فى فيلم الأرض لمحمود المليجى يتشبث بالأرض والغناء يرتفع حوله، والسينما تشترك مع الرواية والمسرح فى تقديم الشخصية بأعلى درجة من الصدق، والشخصيات التى يتوقف عندها الفنان دائما هى الشخصيات الخارجة على المألوف، فالمألوف حولك ولست فى حاجة إلى تكراره، وكما تسعى الرواية والمسرحية للصدق الفنى تسعى السينما، ومن ثم لابد أن تقتنع أن الشخصية التى أمامك شخصية من دم ولحم، حية، رغم أنها صورة، ومن ثم تختلف شخصية الراقصة عن السياسى، والتلميذ عن الأستاذ وهكذا. الفارق أن الرواية تجسد ذلك باللغة ساعية إلى صورة، بينما السينما تقدم الصورة بشكل أساسى، وهكذا تقرأ مشهد الحب فى الرواية، ولكن تراه فى السينما، لكن السينما شأن بقية الفنون لا تكتفى أن تريك ذلك مباشرة، لكن لابد أن يكون جميلا حتى لو كان المشهد قبيحا- الجمال الفنى- وتستعين على ذلك باللقطة ونوعها، درجة قربها أو بعدها أو مكان الكاميرا والنور والظل، وأخيرا الألوان، المقصود فى الحب أو الجنس ليس مشاهدة الجنس نفسه، لكن المشاعر التى عليها الشخصيات فى هذه اللحظة، لذلك قد ترى كل شىء إلا ما يشوه الجمال، إلا إذا أردت أن تصور القبح، وهكذا يختلف المشهد الجنسى فى السينما عنه فى أفلام البورنو، والمخرج أو السيناريست الذى كتب أو المصور يعرفون جيدا أنهم يسعون إلى الجمال حتى فيما يعتبره البعض قبيحا، وفى النهاية يكون الممثل مدركا طوال التصوير وكثيرا بعده، أنه الآن فى هذا الفيلم ليس هو، لكنه الشخصية التى يؤدى دورها، وبدرجة قربه أو بعده عنها تكون إجادته ويكون اقتناعنا بالشخصية وبه كممثل وفنان. وهكذا فلا معنى أبدا أن تقول إن الممثلة مثلا كانت عارية فى الفيلم، لأن التى كانت عارية هى الشخصية. الممثلة تنتهى من دورها وتعود- طال الوقت أو قصر- إلى حياتها الطبيعية. ولا معنى أن تقول إن الممثل فلان الفلانى قال كلمات جارحة أو مشينة لأن الذى قال هو الشخصية. وكما أن فى الفيلم شخصيات شريرة هناك شخصيات طيبة. على الشاشة أمامك حياة متخيلة قد تساعدك على فهم أو تقبل الحياة من حولك أو حتى رفضها، وفى كل الأحوال تساعدك على الإحساس بالجمال، وتعطيك أكبر أنواع المتعة.
تحدثنى عن أفلام تافهة مباشرة فى كل شىء سأقول لك لا أحد يأخذك من بيتك لمشاهدة الفيلم، وتستطيع أن تعرف الكثير عن الفيلم قبل أن تذهب، ثم إن الجمهور ليس دائما نوعا واحدا، هناك دائما من يحب الأسهل أو الأبسط أو حتى الأسوأ. طيب أين المسؤولية فى هذا الفن الذى يخاطب أكبر الشرائح الاجتماعية؟ المسؤولية هى فى إنتاج عمل أكثر جمالا، غير ذلك يتولى نقاد الفن إخراج العمل من تاريخ السينما. الكاتب غايته الصدق الفنى فى رسم الشخصية، والمخرج أيضا بأدواته التى تبدأ بالكاميرا وتنتهى بوسائل الإنتاج، والممثل بتقمصه للشخصية بصرف النظر عما حولها من شخصيات، ومن ثم فالذين يتحدثون عن السينما باعتبارها فنا يجب أن يخضع لمعايير اجتماعية يقيدون من معنى الجمال. صحيح يحدث فى البلاد المتخلفة نوع من الرقابة قوى أو ضعيف لكن فى النهاية لا تتقدم السينما كفن إلا مع عدم وجود قيود من أى نوع. القيود على السينما تجعل الفيلم كتابا فى الموعظة الحسنة، بينما الفيلم هو صور جميلة يستعين صناعه على الجمال بالحركة ودرجاتها وبالمكان وبالظل والنور وبكل أدوات صنع الصورة. المخرج الحقيقى يعرف أنه يريد مكانا فى تاريخ السينما حتى وهو يقدم مشهدا قد يراه البعض جنسيا، لا يسعى لأن يصنع فيلما جنسيا، لذلك ستحتفظ السينما دائما بأفلام جميلة مثل «الخوف» أو «زوجتى والكلب» أو «المذنبون» رغم ما نالها من هجوم، ولم ولن تحتفظ بالأفلام التجارية الكثيرة التى شغلت السينما المصرية فى الثمانينيات من القرن الماضى رغم ما فيها من عرى، باختصار المسؤولية فى السينما شأنها شأن الرواية والمسرح، هى فى درجة الصدق الفنى، وشأنها شأن الشعر هى فى جمال الصورة، وشأنها شأن الموسيقى فى التفاعل بين كل أدوات الفنون التى تدخل فى صناعة السينما، فكل عنصر منها مثل آلة موسيقية تختلف شكلا وصوتا عن الأخرى، لكنها كلها تقدم لك اللحن دون تشويش، أقصد الحوار والكاميرا والموسيقى والتمثيل وغيرها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة