لم يعد الغباء السياسى الذى تتمتع به نخبتنا الحاكمة يثير الانتباه أو الدهشة، فالأيام أثبتت أن الله ابتلى مصر بطائفة لا ترى من الحكم إلا التجبر ولا تعترف بشرعية غير شرعية العصا، ولا تحسن فعل شىء إلا التفنن فى القهر، وهم فى ذلك معذورون، فكيف لماكينة اعتادت أن تنتج القاذورات أن نطلب منه بين يوم وليلة أن تنتج لنا الفل والرياحين، وكيف لمن اعتاد على لغة ما وأجادها طوال حياته أن ننتظر منه أن يغيرها بلغة مجافية لها تماما دون أن يغلبه لسانه المعوج عائدا له إلى لغته القديمة؟!
لا أنتظر من القدماء شيئا جديدا، قد اعتادوا على ما ممارسوه طوال حياتهم، ومن الطبيعى أن يكونوا خارج سياق التاريخ دائما، وأن يظلوا فى كهوفهم، يعميهم الضوء كلما حاول أحد أن يخرجهم من الكهف، تزكم أنوفهم الروائح الطيبة إذا ما حرمتهم من هوائهم العفن، تؤلمهم الشمس إن عرضتهم إليها فجأة، وهكذا يشتعل الصراع أكثر بين المتشبثين بكهف الرجعية والمنطلقين إلى فضاء الحرية، كل فريق يحاول أن يجذب الآخر إلى ما يصبو إليه ونحن الآن على الأعراف، تمزق أطرافنا حالة الشد والجذب ويؤلمنا التناحر بين فئة تريد العودة إلى الماضى وأخرى تريد القفز نحو المستقبل، والبشرى تكمن فى التاريخ الذى ينبهنا بأن الإنسان لا يستطيع أن يوقف عجلة الزمن عائدا إلى الوراء، إذ لا توجد قوة على الأرض تقدر على أن تتحدى الزمن المتجسد فى جيل الحرية الذى سيحالفه النصر رغما عن الجميع حتى إن تأخر أو تعثر.
بقرار تاريخى فى رجعيته وتخلفه أراد المجلس العسكرى أن يعيدنا إلى الوراء خمسين عاما أو يزيد، كاشفا عن أنياب العسكر الحقيقة التى أراد أن يخفيها طوال هذه السنين فلم يستطع، ظن المجلس أنه انتصر، وما أن ابتسم ابتسامة النصر حتى ظهرت أنيابه واضحة جلية فى قرار وزير العدل بمنح الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية حق الضبطية القضائية التى تخول لمن يحملها أن يستغنى عن الرجوع إلى النيابة العامة مستأذنا فى القبض على المشتبه فيهم أو المشكو فى حقهم، لاغيا بذلك القرار المفجع كل أصول الدولة المدنية لتتحول مصر إلى ثكنة عسكرية صماء، الكل فيها تحت الاشتباه والكل فيها رهن الاعتقال والكل فيها مدان حتى قبل أن يتم توجيه الاتهام إليه، والكل فيها أسير رغبات العسكر التى أثبتت الأيام أنها لم تكن يوما آدمية أو سوية.
ما أعرفه يقينا أن التاريخ لا يعود إلى الوراء أبدا، وما أتوقعه هو أن يسفر هذا القرار الأعمى عن حالة عامة من الاستياء والاحتقان التى سرعان ما ستنفجر فى وجه المجلس العسكرى، أو من يعده لحكم مصر، ولا أعرف كيف لا يعرف المجلس العسكرى أن الأغلبية الغالبة من المصريين لم تكن لترضى عن حكم العسكر مرة أخرى وأن تدعيمهم لبقاء المجلس العسكرى فى الحكم لم يكن حبا فيه، ولا عشقا فى سواد عيونه، وإنما كان بدافع وطنى شريف هو الحفاظ على بنيان الدولة المصرية، لا إذنا بالاستبداد، لذا فإنى أرى أن هذا القرار هو البداية الحقيقية للنهاية الحقيقية لحكم العسكر.
ملاحظة 1: المقصود بحكم العسكر هو الاستبداد السياسى باسم الوطنية المدعوم بالقوى العسكرية الغاشمة، أما أبناء الجيش المصرى من الضباط والأفراد فهم مثلنا تماما، يحلمون بما نحلم، ويأملون فيما نأمل ويشعرون بما نشعر، ويهتفون بما نهتف.
ملاحظة 2: يسقط يسقط حكم العسكر.