لا تطلب منى أن أغشك بتفاؤل خداع، ولا أن أحبطك بتشاؤم قاتل، فقط سأقول لك الحقيقة التى لن تجد أحدا يختلف عليها، وهى أن الجميع خسر فى تلك الفترة الانتقامية، فخسرت الثورة حينما لم تتوحد خلف قيادة موحدة وتركت نفسها نهيبة لكل عابر، وخسرت لأن الكثير من شبابها افتقدوا الحكمة، جنحوا بها صوب الهاوية، ولكن قبل أن نحكم على الثورة بالخسارة البينة، لابد أن نضع فى اعتبارنا أن الشباب الذى لا ملك مالا ولا إعلاما ولا كتائب مقاتلة ولا أنصارا فى الداخل والخارج وقفوا أمام العديد من القوى الرجعية التى لا تريد لمصر أن تنهض ولا أن تصبح فى مكانها الطبيعى، تماما مثلما تآمر العالم على محمد على فى بدايات القرن التاسع عشر وحجموه واغتالوا أحلامه، وقف أمام شباب الثورة العالم أيضاً، ولك أن تعرف فقط أن شباب الثورة لم يحاربوا مبارك ورجاله فحسب، وإنما كانوا يحاربون بشجاعة تصل إلى حد التهور كلا من أمريكا ومصالحها وإسرائيل وأطماعها وملوك وسلاطين العالم العربى واستبدادهم، ورجال الأعمال ومشاريعهم المهلكة وإعلام حكومى أو شبه حكومى مأجور، وفلول فسدة مفسدين، هذا طبعا، بالإضافة إلى الجهل والتخلف والفقر والمرض الذى وطنه مبارك ورجال فى ربوع مصر، إن كان شباب الثورة قد تعرضوا لكبوة حقيقية، فيكفيهم أنهم مازالوا رافعين الراية، ومازالوا مؤمنين بأنفسهم وأهدافهم.
الجماعات الدينية أيضا خسرت كل شىء، وبعدما كان الإخوان يتباهون بالقول إنهم لو رشحوا كلبا ميتا للانتخابات صاروا يشحتون الأصوات ويتوسلون لشباب الثورة طالبين منهم التأييد، لإنقاذ شعبيتهم المتدهورة صاروا يلوكون الكذبة بعد الكذبة لإجبار الناس على التصويت لهم، مدعين مثلا أن الدكتور محمد البرادعى وحمدين صباحى وعلاء الأسوانى يؤيدونهم، وهو ما نفاه هؤلاء بشدة فخسر الإخوان مصداقيتهم بعد أن خسروا أصوات المناصرين، كما خسر التيار السلفى كثيرا من بريقه ومصداقيته بعد أدائه الباهت فى البرلمان والفضائح التى حاصرت أعضائه فأصابتهم فى مقتل.
المجلس العسكرى أيضا خسر الكثير من بريقه وقوته وشعبيته والتفاف الناس حوله، بعدما تورط قادته فى دماء المصريين وظهرت أنيابه فى جسد مصر الملقى على الطريق، وبعدما كان الشعب برمته يهتف من أعماق قلبه «الجيش والشعب إيد واحدة» أوصل المجلس العسكرى بغبائه السياسى وميوله الدموية، الأمر إلى أن يطبع صورا مصطنعة ويعلقها على الأتوبيسات والمصالح لجندى يحمل طفلا ومكتوبا عليها هذا الشعار الذى صار مجافيا للطبيعة، والأحزاب المدنية أيضاً خسرت الكثير، وأضاعت من يدها فرصة التواجد فى الشارع السياسى بعدما ظلت عهودا فى حظيرة مبارك خانعة مستسلمة، وبدلا من أن تنتهز هذه الفرصة لتصبح مؤسسات سياسية حقيقية ارتمى بعضها فى أحضان العسكر وارتمى البعض الآخر فى أحضان الإخوان، بينما ظل فريق آخر حبيس أجندته الخاصة أو حبيس شعاراته الجوفاء.
هذه من وجهة نظرى المحصلة النهائية للمرحلة الانتقامية، ومخطئ من يحسب أن خسارة جولة هى آخر المطاف، فمازال الأمل موجودا فى مستقبل قريب، يتعلم فيه الجميع من أخطائه، فيدرك الإخوان أن سعيهم من أجل مصالحهم الشخصية لم يعد مجديا وأن الأمل فى شبابهم المخلص الجاد الواعى الذى حرموه من جنى ثمار ما زرعه، وتدرك الأحزاب المدنية أن وجودها الحقيقى فى الشارع وليس فى الفضائيات وأن المصالح الضيقة لا تستوعب الوطن الواسع، ويدرك شباب القوات المسلحة أن مصلحتهم الحقيقية فى بناء وطن مستقل يتمتع فيه الجميع بحقوق المواطنة، ويدرك شباب الثورة أخطاءهم فيعالجونها ليصبحوا مثل ثورتهم المبهرة وينقذونها من الوأد.