إبراهيم داود

مع الماغوط

الإثنين، 25 يونيو 2012 02:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«وأنا هائم فى الطرقات، أصافح هذا وأودع ذاك، أنظر خلسة إلى الشرفات الغالية، إلى الأماكن التى ستبلغها أظافرى وأسنانى فى الثورات المقبلة، فأنا لم أجع صدفة ولم أتشرد ترفا أو اعتباطا، ما من سنبلة فى التاريخ، إلا وعليها قطرة من لعابى»، يلح على هذا المقطع من قصيدة الغجرى المعلب لمحمد الماغوط وأنا أنظر بأسى إلى معركة السلطة الزائفة فى بلادى، وأحاول وأنا أتفادى وجوه المترددين والمتلونين و«الكسيبة» أن أكمل معه: «ما من قوة فى العلم ترغمنى على محبة ما لا أحب وكراهية ما لا أكره، ما دام هناك تبغ وثقاب وشوارع»، الماغوط الذى انتصرت قصيدته بعد موته وبعد الثورات التى بدأت نقية مثل شعره ووصل بها الحال إلى اختطاف ما هو شعرى فيها، مرة باسم المصلحة الوطنية ومرة باسم الدين، هو لا يشبه الذين يظهرون فى الفضائيات بعد أن نصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الشعب والوطنية، لم يتغير كما تغير المناضلون القوميون على الشاشات وفى غرف المؤامرات السرية، الذين ينتقلون بسهولة ويسر من دعم الفاشية العسكرية طوال ستين عاما إلى دعم الفاشية الدينية المدعومة بالفضائيات والوعود، لم تكن له أموال فى البورصة مثل الشيوعيين القدامى، ولم يبحث عن المجد مثل شعراء جيله، الذين يقفون فى طابور أمام صحراء اللغو فى انتظار الرضا، كان يقول عن نفسه «فى الأوقات العادية أكون عاديا جدا وفى الأزمات أكون محمد الماغوط»، كان طريد السلطة الغبية والفقر وضيق الأفق، كان طريدا مثلنا الآن، غادر قريته وعمره 14 عاما، وقال «كنت سأدرس الهندسة الزراعية، كنت متفوقا، وفجأة أحسست أن اختصاصى ليس الحشرات الزراعية بل الحشرات البشرية»، دخل هذه المدرسة لأنها تقدم الطعام والشراب مجانا، وهرب منها، ومشى على قدميه يومها 15 كيلومترا، ومنذ ذلك الحين ـ كما قال ـ بدأ فى كتابة الشعر، كان يقول « لن أجوع أكثر مما جعت ولن أتشرد أكثر مما تشردت ولن أهان أكثر مما أهنت، ولن أسحق أكثر مما سحقت، وسأظل حفرة فى كل طريق وخريفا فى كل غابة وظلاما فى كل شارع وأنينا فى كل عرس وضحكة فى كل مأتم، حتى تستقيم الأمور لأجيال جديدة وأفكار جديدة»، عندما تقرأ ما كتبه عن مدينته سلمية قبل عقود تشعر أنه كتبها عن القاهرة هذه الأيام: «يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب الأطلال والغربان، فصولها متقابلة أبدا فى قطار كعيون حزينة»، لم يكن له أصدقاء، ولم يحب الجلوس وسط المثقفين، وكان يقول إنه يحب عزلته ويحاول الحفاظ عليها، وإنه يحب الجماهير وهى بعيدة عنه، ويؤكد: «لم تخذلنى الجماهير مع أنى كنت قاسيا، ولكنها قساوة أب مع أطفاله»، كان يتمنى أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة فى الزقاق، كان مثل الذين ثاروا فى كل مكان، يضربه شيخ الحارة فى طفولته ليحفظ ويتذكر، وفيما بعد يضربه الشرطى لكى ينسى، ومع هذا يقول: «لكننى لن أموت دون أن أغرق العالم بدموعى وأقذف السفن بقدمى كالحصى»، محمد الماغوط لم يكن شاعرا سوريا، كان أكبر من ذلك، لأنه سليل القهر الذى جرف الإنسانية الى ما آلت اليه «كل حقول العالم ضد شفتين صغيرتين، كل شوارع التاريخ ضد قدمين حافيتين»، هذه الأيام أعيش مع الماغوط، وكأننى أتعرف عليه للمرة الأولى، أبحث عن مبرر للخروج من المستنقع العفن الذى فرضته الفاشيتان المتصارعتان، وأشعر أننى أريد أن أفعل مثله: «أحشو مسدسى بالدموع وأملأ وطنى بالصراخ»، لأننى بعد الثورة العظيمة الدافئة التى نمت فى حضنها، وخطفها منى رجال الدين والقانون والعساكر: «لا أملك حتى طفولتى.. لا أملك سوى أخطائى».








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة