ما بين ظالم وجائر ومنتفع ووضيع، يضيع دم الشهداء هكذا، بحكم مفصل على مقاس الظالمين، يضمن براءة مبارك ومعاونه حبيب العادلى قياساً على ما استحقه مساعدى وزير الداخلية من حكم بالبراءة، ولا عتاب على من أصدر الحكم وفصله، لأن ما بين يديه من أوراق وأدلة لا تكفى فقط لمنح مبارك البراءة، وإنما تجبر من يرى بعين الإنصاف أن يمنحه وساماً فخرياً يختم به حياته مكرماً فى جناحه الفاخر بفندق المستشفى العالمى.
لم أندهش من الحكم وقد كتبت أمس أن القاضى سيحكم بالبراءة الصريحة، وللأسف لم يخيب القاضى ظنى، ومنح مبارك براءة مقنعة، محدثاً تناقضاً فاضحاً بين الأحكام الصادرة بحق المتهمين وما ناله مبارك والعادلى، وقد كان متوقعاً مثل هذا الحكم الأعور بناء على ما سبقه من مقدمات وشهادات زور وأدلة أتلفوها عمداً، واتصالات أخفوا مصدرها وفاعلها، فقد هانت علينا دماء الشهداء يوم أن قررنا أن نمنح القط مفتاح الكرار، وأن نجعل المتهم قاضياً ومحققاً، ولم أكن لأستغرب من أن تكون هذه هى النهاية الهزلية للمأساة التى نعيشها منذ ما يقرب من عام ونصف، رأينا خلاله كيف يخرج الضابط تلو الآخر من تهمته بسلاسة ويسر وكأن دماء الشهداء ماء.
عام ونصف تركنا فيها كل وضيع مرتزق خائن ليشوه الثورة والثوار والشهداء، خرج علينا الجراثيم من أماكنها، والفئران من جحورها، ليملؤا وسائل إعلامنا ويوجهوا الرأى العام ضد الثورة وشهدائها، خرج علينا ألف سمسار وسمسار ليفاوض على الدماء الطاهرة بكراسى زائلة، لا ينظر أحد إلى المصائب التى تحل على البلاد والعباد وإنما ينحصر بصره على ما سيجنيه من مكاسب، وقد وصل العجب منى مداه اليوم حينما رأيت من يبادر بالتعليق على الحكم بأنه يصب فى مصلحته أو مصلحة مرشحه فى انتخابات الرئاسة، وكأن كل شىء، لا شىء، والخلاصة الواقعة هى أن أشرف الناس ماتوا من أجل أحط الناس.
ليس لنا أن نطلب منكم السماح والغفران، بعدما تركنا ثأركم بين أيدى القتلة ودماءكم فى كؤوس الطغاة يشربونها بعد كل مؤامرة، وليس لكم أن تغفروا لنا زلاتنا وهفواتنا وتخاذلنا وهواننا، فقد هنا على أنفسنا وهانت دماؤكم علينا فجلسنا نعد خيباتنا ونعدد أخطاءنا ونغرق فى خلافاتنا ونتصارع على كراسى السلطة التى لم نكن لنحلم بها لولاكم، وعزاؤكم أنكم أنتم الأحياء ونحن الموتى، أنتم الأشراف ونحن المذنبون، وأنتم الأنقياء ونحن الملوثون، وأنتم الأبرياء ونحن والمجرمون.
قتلناكم اليوم بحكم جائر وسكوت عاهر ومذلة لا يغفرها التاريخ، لم نقتلكم اليوم فحسب وإنما مثلنا بجثامينكم الطاهرة وتشفينا فى هزيمتكم البينة، وعزاؤكم أنكم متم تحملون بين أضلاعكم البشارة فأصبحتم أحياء عند ربكم ترزقون، ونحن متنا حسرة وتندما وخذلانا وهوانا.