الحكم الذى أصدره المستشار رفعت لم يرض عنه الكثيرون، والرافضون له أكثر من غيرهم، وقد يكون معهم الحق فى ذلك، ولكن هؤلاء نسوا أن الدنيا ليست هى دار العدل ولا الإنصاف الحقيقى للمظلوم والمقهور، ولكن العدل الحقيقى والمطلق لن يكون إلا فى الآخرة، حيث يتولى الحكم فيها الحكم العدل الذى يعلم السر وأخفى.. الذى يقول بعد هلاك الجميع: «لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ».. ثم يرد على نفسه سبحانه «لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ*الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.. لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ». أما الدنيا فالظلم والبغى هو الأغلب والأعم.. والعدل والقسطاس هو الاستثناء.. ولو كان فى الدنيا عدل ما أقام الله الحساب والميزان يوم القيامة.
ورغم أننى قضيت 24 عاما ًًبالسجن فى عهد مبارك، فإننى لم أشمت فيه عندما سجن، فقد عزمت مع نفسى ألا أشمت فى أحد مهما ظلمنى، فقد تعلمت من الإسلام ومن سجنى الطويل أيضا أن أتعلم العبرة والعظة من كل ما يدور حولى، وأن أبث هذه العبرة للآخرين ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وقد قلت لنفسى لماذا سجن مبارك دون غيره من حكام مصر حتى الذين ظلموا منهم، وتأملت فترة حكمه الطويل فوجدت أنه أسرف فى سجن معارضيه، خاصة الإسلاميين منهم، وقد وجدت بين المعتقلين مثلا من كان مبتور القدمين ويزحف على الأرض، ورغم ذلك مكث قرابة 11 عاما معتقلا، ووجدت معتقلين آخرين حصلوا على 45 حكما قضائيا بالإفراج ولم تنفذ، ووجدت من حصلوا على أحكام بالبراءة يمكثون 13 عاما بعد الحكم فى المعتقل وكنا نمزح معهم قائلين: إنهم يقضون فى حكم البراءة.
وكانت هناك أسر كاملة فى المعتقل من الرهائن حتى إننى وجدت سبعة من أسرة واحدة، وكان هناك سبعة من أشقائى غير والدتى ووالدى، رغم أن المطلوب فى الأمر هو العبد لله فقط، وكان هناك قزم معتقل من إسنا طوله لا يجاوز 35 سم. لقد كان هناك شطط وإسراف وتطرف فى سجن واعتقال عشرات الآلاف، رغم أن المتهمين الحقيقيين دوما لا يجاوزون العشرات.. وكان يمكن أن يتسامح أو يرحم من لهم ظروف خاصة، ولكنه أبى أن يرحم أو يحسن إلى أحد، فجاءته طوائف من الشباب وشرائح مصرية كثيرة لا تريد أن ترحمه أو تتسامح معه أو تعفو عنه.
إنها الحكمة الأزلية «الجزاء من جنس العمل».. فمن زرع المعتقلات دخلها.. ومن زرع المعروف لم يعدم جوازيه.. ومن أشاع العفو والرحمة والتسامح وجدها من الآخرين فى شدته، فمن سجن شعبه سجن، ومن روعه أخافه الله.. ومن حرم الآلاف من أبنائهم أذاقه الله من نفس الكأس، إنها عبرة وعظة لنا جميعا، خاصة أن البعض منا الآن على أعتاب الحكم وبينهم وبين السلطة قاب قوسين أو أدنى، وهذا يعلمنا ألا نعدل بين الناس فحسب، ولكن أن نحسن إليهم وأن ننحى الانتقام جانبا، وأن نعفو عمن ظلمنا ونصل من قطعنا وألا نظلم من يخالفنا فى رأى أو فكر أو حكم ولا نقسو على الآخرين.
إنها رسالة لكل من تهفو نفسه إلى كراسى السلطة تناديه «إنها خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها» كما قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم» لأبى ذر.. إنها تعلمنا جميعا ً أن حريات الناس وليس المسلمين فقط ولدوا بها ولم يهبها لهم أحد، وليس من حق أحد مهما كان سلطانه وتدينه وتقواه أن يسلبهم هذه الحرية إلا بحقها.. يا قوم اهتموا بالعبرة واتركوا التشفى أو الشماتة، واحذروا من كراسى السلطة فهى التى تخلب عقول الأفذاذ وقد تحول الصالحين إلى جبارين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة