«الدولة الوطنية» هى الأرضية المشتركة التى يمكن أن يلتقى عندها الطرفان معا.. أنصار الدولة الدينية، ودعاة الدولة المدنية.. بلا هواجس أو مخاوف أو شكوك، وحتى لا يضيع الوقت فى الاتهامات المتبادلة، التى تصرف الوطن عن معركته الأساسية، فى التنمية والبناء وتحقيق العدالة الاجتماعية، والرسو بالسفينة المرتبكة على بر الأمان، فالدولة المدنية طرح غير مقبول عند الإسلاميين، والتصق فى وجدانهم أن العلمانى هو الكافر، حتى لو علق فوق رأسه هلالا، أو أطلق لحيته فوق ركبتيه، ويتراكم هذا المفهوم منذ سنوات طويلة، ويتم توظيفه سياسيا فى المعارك الانتخابية، ولم تنجح كل المحاولات فى إزالة آثار هذه الصورة السلبية، خصوصا لدى العامة وبسطاء الناس، الذين ينهلون ثقافتهم من أئمة المساجد، وشيوخ الزوايا والبرامج الدينية فى الفضائيات.
والدولة الدينية تثير المخاوف والهواجس لدى الليبراليين، وتدعمها بعض تصرفات المتشددين التى تحدث على أرض الواقع، مثل دعاوى تحريم الفن، وحوادث جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهدم الأضرحة، والمضايقات التى تتعرض لها غير المحجبات، وامتد الخوف ليشمل المعتدلين بجانب المتشددين، ويقف فى طابور الخائفين - أيضا - الإخوة الأقباط، لدرجة أن عددا منهم كون جماعة أطلق عليها «الإخوان المسيحيين».
الدولة الوطنية هى الأرضية المشتركة التى يمكن أن تهدئ المخاوف وتقضى على الفتن، وترسم خارطة طريق تجمع أبناء الوطن تحت راية واحدة، تؤمنهم حاضرهم ومستقبلهم، وتعيد إحياء مصر القوية التى يقف أبناؤها صفا واحدا فى مواجهة المخاطر والمحن والشدائد، ونحن فى أمس الحاجة فى هذا الوقت بالذات إلى استدعاء الثوابت الوطنية الأصيلة، التى تجعل هذا الشعب روحا واحدة، تنصهر فى بوتقة واحدة.
أيام الاستعمار البغيض أرسلت الحكومة البريطانية اللورد كرومر إلى مصر ليضرب المقاومة الشعبية بدس الفتن والمكائد بين المسلمين والأقباط، وبعد محاولات كثيرة، أرسل لحكومته يقول: «جئت إلى مصر فلم أجد فيها غير مصريين بعضهم يذهب إلى المساجد وبعضهم يذهب إلى الكنائس ولا فرق»، وفشلت مهمته وعاد إلى بلاده مهزوما، فهل يفعل المصريون بأيديهم ما فشل فيه كرومر، بينما فى مصر الآن الأزهر الشريف بقيادته المستنيرة، والكنيسة بمواقفها الوطنية؟
الدولة الوطنية تحتاج فريقا من عقلاء الوطن، يؤسسون معالمها وينبذون الفرقة والتشرذم، ويقدحون عقولهم وقلوبهم لتعبر البلاد عنق الزجاجة، لأن مصر انحشرت فى هذا العنق سنوات طويلة، حتى أكل العنق الزجاجة نفسها، رغم أن الأسباب التى توحد المصريين أكثر من التى تفرقهم، وهم الآن على أعتاب بناء دولة جديدة تعيد إلى الأذهان المقولة الرائعة «أنا المصرى كريم العنصرين».
دولة جديدة تعلى شأن المواطنة، وتجعلها تاجا فوق رأس الدستور الجديد، جميعهم متساوون فى الحقوق والواجبات، ولا فرق بسبب الدين أو العرق، وشعارهم «مصر فوق كل شىء وقبل كل شىء»، تتعانق فيها أصوات الآذان مع أجراس الكنائس، تحمى هويتها العربية الإسلامية، وتصون تراثها الحضارى الموروث عبر آلاف السنين، وتعيد تفعيل قوتها الناعمة فى العلوم والفنون والثقافة والآداب، مصر المنفتحة على العالم تأخذ منه وتعطيه، وتساهم فى صنع الحضارة الإنسانية، ولا تنشغل أبدا فى الجدل العقيم الذى يشق وحدة أبنائها، ويوقعهم فى فخاخ التشرذم.. مصر التى يشق هتاف أبنائها عنان السماء «ارفع رأسك فوق أنت مصرى».