لا يبالى كثير من هؤلاء الذين يقضون ساعات تحت نيران الشمس الحارقة فى مظاهرة للمطالبة بالتثبيت أو التعيين فى الحكومة، بحديث المحللين السياسيين ومقالات الرأى وصراخ المذيعين الوطنيين، وامتعاض أصحاب المعاشات الذين يقضون ساعاتهم الباقية على المقاهى، على عجلة الإنتاج والتأثيرات السلبية لعدم الاستقرار السياسى، ونزيف الاقتصاد، لأن هؤلاء المحتجين بالتأكيد لا يشعرون بالفرق فى الحالتين، إنما هم يريدون الدخول ضمن الزمرات السابقة والتى تتمرغ بتراب «الميرى» وتخشى عليه من الزوال، ويريدون أن يتذوقوا طعم هذا الاستقرار الوظيفى الذى يسمعون عنه ولا يطال، ويرغبون فى الاستمتاع بصوت عجلة الإنتاج وهى تدور بهم وليس بعيدا عنهم، لكن أن تحدثهم عن الاقتصاد الذى تمزق والديون التى تفاقمت فهيهات أن يسمعوك وهم تتساوى عندهم أرقام البورصة ودرجات الحرارة، ولا فرق لديهم بين النمو والتضخم إلا ما يعرفونه من خبرات جنسية.
ضع نفسك مكان واحد منهم وستعرف حقا معنى الوظيفة الحكومية، وستذق عصارة الحقد المرة التى تصعد لحلقك، عندما تسمع عن موظف فى قطاع البترول أو الكهرباء أو الاتصالات يتخطى راتبه فى الشهر مدخرات عمرك بأكمله، وتساوى مكافآته السنوية ميراثك أنت وإخوتك من أبيك بعد مماته، ستعرف حينها أن القوانين التى يسنها البعض وهم يحسبونها عدلا، ما هى إلا أكوام من الظلم تدفن تحتها الملايين ممن لا تراهم عين العدالة المجردة، ستقول لى إنها مسألة احترافية وأن كل صاحب خبرات يستحق ما يصل إليه، سأخبرك سرا، كم مرة رأيت أو سمعت عن موظف من هؤلاء دون أن تسأل نفسك عن تلك الواسطة التى عينته فى الوظيفة وكم دفع من المال لبلوغها، أنا أعرف أشخاصا دفعوا مبالغ تتخطى الأصفار الأربعة ليفوزوا بوظائف فى تلك القطاعات، كما أعرف آخرين دفعوا أضعافها ليضمنوا لأبنائهم وظائف لو ذكرتها هنا ستضعنى تحت طائلة انتقادات «أدمن العسكرى» لكنها الحقيقة والواقع الذى نعرفه كلنا وننكره جميعا.
نحن لا نطلب من النظام الجديد إلا أن يعيد بناء منظومة العدالة وإن يعى أنها لا تعنى الاشتباك مع القضاء فقط، ولكن العدالة فى كل شىء بدءا من توزيع أعمدة الإنارة وصناديق القمامة بالتساوى فى الشوارع ومرورا بالعدل فى تقديم الخدمة التعليمية، والتوظيف والمزايا الاجتماعية وانتهاء بتعيين الوزراء واختيار المستشارين، لكن أن تطلب العدل ممن يتجرعون الظلم كل ساعة، فهذا عين الحماقة لأنك لن تجد من يستمع، وإذا سمعوك فأنت فى نظرهم مجرد واحد ممن لايشعرون بآلامهم، فقط إذا كان الرئيس الجديد صادقا فى نيته فسيستطيع أن يحقق ذلك، وإن لم يكن فسيظل هؤلاء ذنبا فى رقبته هو ومن سبقوه، وستبقى كل موازين العدالة مختلة فى هذا الوطن ولا تحدثنى عن عجلة الإنتاج مرة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة