لا أنسى ما حييت منظر المصريين فى مطار بغداد، أثناء زيارتى الوحيدة للعراق قبل غزو الكويت، وهم يجلسون فى طوابير طويلة على الأرض للعودة إلى مصر، ولا يسمح لهم بدخول صالة السفر إلا قبل إقلاع الطائرة، مع أنهم يحملون تذاكر درجة أولى، وكانت مكاتب الحجز العراقية التى تحتكر وحدها رحلات الطيران، تجبرهم على ذلك بحجة عدم وجود تذاكر سياحية، وفى الدائرة الجمركية يتم تفتيشهم ذاتيا بخلع الملابس أمام المسافرين، ومن يجدوا بحوزته مائة أو مائتى جنيه يخيرونه بين التصالح، وأن يشترى بها من السوق الحرة، أو يتم اعتقاله بجريمة تهريب عملة وعقوبتها الإعدام، وخفف صدام العقوبة بالنسبة للمصريين إلى قطع اليد فقط، اعترافاً بجميلهم فى الوقوف بجانبه ضد إيران!.
مائة جنيه- يا مؤمن- ادخرها المصرى الغلبان فى بلاد الرافدين بعد الشقاء والذل والبهدلة، لزوم المواصلات من مطار القاهرة حتى بلدته فى الريف أو الصعيد، يجبره زبانية صدام أن يشترى بها شيبسى وبسكويت ومناديل ورقية، وهى السلع الموجودة فى السوق الحرة، والله العظيم كان منظر المصرى الخارج من التفتيش، وهو يحمل "كيس خيش" فيه هذه الأشياء، مثل الكتكوت الدايخ الذى صبوا فوقه ماء بارد.
أما فى الطائرة فيكون الركوب للعراقيين أولا ويشغلون الدرجة الأولى بتذاكر مجانية والمصرى الذى يطالب بدرجته الأولى يتم تخييره بين الدرجة السياحية أو انتظار طائرة أخرى، فكان يوافق و"يبوس إيديه وش وضهر"، ليرحم نفسه من عذاب الجلوس على شنطته فى الطل أمام المطار خمسة أيام أو أسبوع، تحت الشمس الحارقة أو الأمطار والبرودة القارصة، فلم يكن مطارا يتبع القوانين الدولية، بل أسوأ من مواقف نقل الماشية فى الأرياف، ويغلق أبوابه فور امتلاء الطائرة، لا تواريخ ولا حجوزات ولا أرقام مقاعد، وإنما بالدور لمن يجلس فى الطابور الذى يمتد مئات الأمتار، تحت رحمة رجال الأمن العراقيين، الغلظ القلب واللسان والأحذية، ولا يسمح بدخول صالة السفر إلا للعدد الذى ستقله الطائرة.
لا أنسى ذلك ما حييت، ومن ساعتها وأنا أسأل نفسى أسئلة تتكرر، كلما وقع لمصرى حادث فى دولة شقيقة: لماذا يهان المصريون فى بلاد العرب، بينما يجدون الاحترام فى دول الغرب؟ .. لماذا لم يظهر فى بلاد العرب مصريون نوابغ، مثل مجدى يعقوب وزويل وفاروق الباز، وغيرهم آلاف الأسماء الذين يتبوأون أعلى المناصب فى تلك الدول الأكثر تقدما؟، لماذا تتعنت السلطات السودانية- مثلا- فى اعتقال صحفيتين مصريتين، بينما يتمتع ملايين السودانيين بالحرية فى مصر؟، لماذا يستأسد الكفيل الظالم على المصريين فى دول الخليج، بينما يعيش الأجانب ملوكاً فى تلك الدول ويدخلوها بدون تأشيرة؟، لماذا تستخدم بعض الدول العربية المصريين كرهائن عندما تحدث خلافات سياسية بينهم وبين مصر، وتهددهم بالطرد والترحيل وإنهاء العقود؟
كرهت "صدّام" من يومها، وكرهت من كانوا يدبجون فيه قصائد المديح والإشادة، وإنه حامى حمى العروبة، والأسد الذى يزأر على بوابة العرب الشرقية، فترتعد إيران، وتنام دول الخليج فى أحضانه آمنة مطمئنة، ففتحوا له خزائنهم خوفاً من بطشه، وطمعا فى حمايته، حتى التهم شقيقتهم الصغرى الكويت.. كرهت "صدّام" لأنه رد الجميل لمصر وشعبها بإرسال توابيت فيها جثث أبنائنا مقتولين بالرصاص الحى، وبرفقتهم شهادات طبية مزوّرة تزعم أنهم ماتوا ميتة طبيعية.
من ساعتها وأنا أسأل نفسى: هل يأتى يوم ويصبح فيه المصرى مثل الأمريكى، الذى تتحرك بلاده بكل عناصر قوتها لتحميه ظالما أو مظلوماً مثلما فعلت مع المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى؟.. أوحتى مثل الخادمة الفلبينة التى تقلب سفارتها الدنيا، إذا تعرضت للإهانة أو انتهاك الحقوق؟.. متى تكون كرامة المصريين خط أحمر لا يمكن تخطيه، ويشعر المصرى أن وراءه ظهر يحميه ويدفع عنه الضرر؟.
أولاً: يجب أن نحطم الأسطوانة المشروخة بأن مصر تتحمل لأنها الدولة الكبيرة، فالكبير كبير فى الكرامة والكبرياء، وليس الإهانة والتطاول، وما يمس أى مصرى يمس المصريين جميعا، ولن يعلو شأنهم وترتفع هامتهم إلا برفع كرامتهم عالية فى السماء، أما التفريط والتقريع ومجاملة الآخرين على حساب كرامة المصريين، فلا يؤدى إلا لمزيد من إهدار الحقوق.
ثانيا: إعلاء مبدأ السيادة الوطنية، وعدم السماح للغير بأن يدس أنفه فى شئوننا الداخلية، وللأسف الشديد فقد أصبحت بلادنا مستباحة لكل من هب ودب لتنفيذ أجندات خارجية تنعكس بالسلب على المصريين فى الداخل والخارج، مثل قضية التمويل الأجنبى التى ضربت سيادة الدولة فى مقتل، بعد سفر المتهمين الأمريكان وهم يخرجون ألسنتهم للجميع.
ثالثاً: يجب الاعتراف بأن وزارة الخارجية فشلت بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى فى مد مظلة الرعاية والحماية والتواصل مع المصريين فى الخارج، بعد توليها تلك المسئولية فى أعقاب الغاء وزارة الهجرة، وعاش السفراء المصريين فى الخارج فى أبراج زجاجية معزولين عن مواطنيهم، ولا يتحركون إلا إذا حدثت ضجة فى الداخل، ولا يحرص المصريون على مد جسور التعاون معهم، لشعورهم بأنهم "زى قلتهم".
رابعاً: ضرورة استحداث وزارة جديدة للمصريين فى الخارج، لها برامج حقيقية تجذب المصريين فى الخارج، وتمد معهم جسور التعاون، وتغريهم بالاستثمار فى وطنهم فى مشروعات تنافسية أفضل من الدول التى يعيشون فيها، بعيداً عن الهمبكة والفهلوة والمنظرة التى أدت إلى فشل تجارب وزارات الهجرة السابقة، التى شغلها وزراء أقرب إلى بهلونات التشريفة الذين يسيرون فى مقدمة الجنازات الحارة.