فى الأسبوع الماضى صرح جايمى أحد أشقاء الروائى الكولومبى جابرييل جاريسيا ماركيز، أن أخاه مصاب بالزهايمر، وفى اليوم التالى نفى مدير مؤسسة الصحافة الحرو «التى أسسها جابى» ما صرح به جايمى، وأضاف «أنه إنسان مسن.. ينسى أحيانا»، أى أن الكاتب الذى نذر حياته للحكى، يعانى مشكلة مع الحكى، منذ «ذكريات غانياتى الحزينات» فى 2004 لم يكتب عملا أدبيا، ولكنه كتب سيرته الرائعة «عشت لأروى»، ويكتب مقالا أسبوعيا فى مجلة كامبيو فى بلده، بعد انتصاره على السرطان الذى أصيب به أواخر التسعينيات، ماركيز لا يعبر فقط عن هموم وأشواق قريته البعيدة، وأهله فى كولومبيا، ولكنه حوط بإبداعه على الحياة التى انتصرت طوال التاريخ على القمع والفاشية والنهب والإهمال، ماركيز الذى احتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين فى مارس الماضى، جاهد طويلا ـ كما قال ـ لكى يتخلص من صفات برج الحوت، ليكتسب صفات برج الثور، عندما كتب «مائة عام من العزلة» فى 1967، لم يكن يعرف أنها ستفتح أبوابا جديدة لفن الكتابة مع ترجمتها فى 1970، وأن «ماكوندو» القرية المعزولة التى تخيلها وسط الغابات الاستوائية فى كولومبيا، موجودة فى كل مكان، هى قرية تحميها ثقافتها وأساطيرها، ذهب إليها الأمريكان، وحولوا الغابات إلى مزارع للموز، ومصانع وسط المستنقعات، وأوصلوها إلى البحر بسكك حديدية، ليبدأ التحول الاجتماعى العنيف يدوس على كل شىء، كانت الرواية مزيجا عنيفا بين الواقعية والسريالية، أطلق عليه النقاد «الواقعية السحرية»، ونظر نقاد الغرب إليها على أنها عناصر خرافية استخدمها صاحب نوبل، لكى يلون حكاياته بألوان طريفة، ولكن النقد المحلى هناك أدرك أن ماركيز كان يرسم صورة الواقع المنعكسة فى أذهان الناس فى بلاده، خاصة أبناء الريف أصحاب الثقافة الشعبية الذين يمارسون الحياة: العمل والحب والزواج والتدين والتناسل والثورة والفسق والتخيل والغناء والتصوف والتفكير، باعتبارها كلا متكاملا، عمل صاحب الحب فى زمن الكوليرا فى الصحافة، وهو فى العشرين، ويرى أنها مهنة لا تقل عن الرواية والسينما، وأن التحقيق الصحفى هو أجمل شىء فى الحياة، وغير مقتنع بجدوى الحوارات الصحفية، وفى حوار أخير معه قال إن الصحفيين الآن لا يستطيعون الكتابة، كل ما يفعلونه هو الاستشهاد بالآخرين، كان يعتقد أنه جاء إلى الحياة لإنقاذ فن الحكى، وأن أجمل قصة قرأها هى «عندما استيقظت من نومى كان الديناصور ما يزال هنا» للجواتيمالى مونتيروسو، وأن ألف ليلة هى التى أخذته من يده إلى سحر الحكايات، فى مذكراته قدم درسا لكتاب الحكايات، أنت فى صحبة شخص، اعتبر حياته العادية مادة للمعرفة، ستلتقى شخصيات قابلتها فى قصصه ورواياته، وأخرجها من سياقها ومنحها خلودا فنيا راسخا، وأعتقد أنه عندما تخلى عن هذه السمة مع «ذكريات غانياتى الحزينات، توقف عن كتابة القصص، لأنه استلهمها من رواية كاوباتا اليابانى الفاتنة «الجميلات النائمات»، ولكنه من خلال رواياته العشر وقصصه الخمسين وآلاف المقالات الفريدة، صنع أسطورة محببة وأصبح ملهما للكتاب، لأنه يعيد صياغة العلاقات الإنسانية التى يحملها الشعر، والعلاقات التى يحملها الشعر لا يمكن نسيانها، حتى لو كان الموضوع غير شعرى، فهو فى خريف البطريرك، ووقائع موت معلن وخبر اختطاف، كان يرى أن الواقع ليس ما حدث، ولكنه كل ما يصلح للحكى، وأشعر بحزن شديد لأنه صار ينسى، ولأن البشرية التى قدمت له مادته الخام ستفتقد صوته الحنون الذى أعلى من شأن الحياة التى يحتقرها المتطرفون الذين «بركوا» على أحلامنا، والذين يشبهون ديناصور الجواتيمالى، ماركيز كتب فى وصيته قبل الزهايمر (أو الخرف أو النسيان)» سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، دون أن يدركوا أنهم يشيخون متى توقفوا عن العشق».