لو كان لدى كثير من المال لبنيت هنا مصحا لمعلمى الريف المرضى، مبنى مضيئا، كما تعلم، يملؤه النور بنوافذ متسعة وسقوف عالية، ولزودته بمكتبة رائعة، وبمختلف الآلات الموسيقية، وبمجموعات من خلايا النحل، ولأحطته بحديقة للخضار وبستان لأشجار الفواكه، ولنظمت فيه محاضرات حول أصول الزراعة وأحوال الطقس وعلم الأرصاد وما إلى ذلك من العلوم، فمن الواجب أن يعرف المعلمون فى كل الأمور، عليهم أن يلموا بكل شىء».. هكذا كان يحلم أنطون تشيكوف فى آخر أيامه ونقله عنه مكسيم جوركى الذى زاره فى بيته البعيد، وقبل أيام شاهدت فيلم تشيكوف وماريا الرقيق الذى يدور فى هذا البيت ويتناول حياة الكاتب الروسى العظيم وإلى جواره شقيقته، وفى الوقت نفسه قرأت شيئا فى «الشروق» عن مدرسة لغة عربية وتربية دينية بالثانوى تدعى فاطمة عبد الخالق أصابها الذعر عندما سمعت أن الدكتور مرسى أصبح رئيسا، لأن تلميذاتها بدأن يسألنها «ازاى مش لابسة حجاب وانت بتدرسى تربية إسلامية يا أبلة؟»، فتجيب «أنا خريجة آداب وانتم اللى بتدونى حصص الدين عشان تكملوا الجدول» وتحاول أن تتبعها دائما بجملة استنكارية «هل الوزارة تشترط أن تكون مدرسة التربية الدينية بحجاب؟»، وهى أيضًا خائفة من إصدار الإخوان قرارا بهذا، فى الوقت نفسه تتوارد أخبار عن ذهاب حقيبة التعليم فى الوزارة الجديدة إلى المتشددين، كانت أحلام تشيكوف إنسانية ورحبة ومجردة، ويرى ضرورة توفير حياة ممتازة للمعلمين، ويقول «نحن نعلم أن بلدنا سينهار إذا لم يحصل الناس على تعليم يتناول جميع جوانب الحياة، وعلى المعلم أن يكون ممثلا وفنانا وإنسانا مغرما بعمله، أما معلمونا فهم بسطاء سذج، أنصاف متعلمين، يذهبون إلى قرانا قسرا ليعلموا أبناءنا وكأنهم يساقون إلى المنفى، تشيكوف كان يقول دائما «لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه فكم سيكون العالم جميلا بديعا»، وللأمانة الشديدة سعدت بتأكيد الرئيس الجديد فى جامعة القاهرة على حرية البحث العلمى والإبداع، ولكننا نعرف أن جماعته والفصائل التى تحالفت معه ستحاول أن تجعل المدارس منصات لتفريخ تلاميذ يؤمنون بالسمع والطاعة، وجود زويل والبرادعى أثناء إلقاء الخطاب أول أمس يجب أن يكون له معنى فى الفترة المقبلة، نريد تعليما حقيقيا لا يعلى من شأن التلقين، نريد شروطا أفضل للمعلمين وهواء نقيا للتلاميذ، نريد أن تستعيد المدارس النظامية التى تخرج فيها أصحاب نوبل والرئيس الجديد هيبتها، وأن يبتعد صاحب المدارس الخاصة خيرت الشاطر عن وزارة التربية والتعليم تحديدا، لأننا فى حاجة إلى علماء فى جميع التخصصات، ولأن عندنا ما يكفى من رجال الدين والتجار، وأن يبتعد رجال الإعلام والثقافة الذين بدأوا فى التطبيل للرئيس الجديد، ويقدمون أنفسهم ببراعة على أنهم يعبرون عن المعارضة والشعب والشارع والثورة والميدان وما إلى ذلك من تسميات، لأنهم مثل النقاد الذين شبههم تشيكوف «1860 - 1904» بذبابة الفرس، لا مهمة لها إلا أن تزعج الخيل وتعيق حركتها، فعضلات الحصان تكون متحفزة ومتوترة كأنها أوتار الكمان، وفجأة تحط الذبابة على قفا الحصان وهى تطن وتلسع، فيرتعش جلده ويهز ذيله ليتخلص منها، لماذا تطن وتزن تلك الذبابة؟ قد لا تعرف هى نفسها لم تفعل ذلك، ربما بسبب طبيعتها المتبرمة القلقة، فهى تريد أن تشعر الآخرين بوجودها وتقول أنا موجودة، انتقلت السلطة وحلف الرئيس اليمين ثلاث مرات فى ثلاثة أماكن، وبقى فى ذهنى مشهد جثمان تشيكوف الذى جاء فى عربة قطار مكتوب عليها «محار» وفوجئ مستقبلوه القليلون بموسيقى عسكرية فى انتظاره، وراحوا ينظرون لبعضهم باستغراب وكان بينهم جوركى العجوز، وبعد أن تقدموا خطوات تبين لهم أن هذه الموسيقى أخطأت لأن القطار كان يحمل فى عربة أخرى ليست مخصصة للمحار جثمان الجنرال كيلر القادم لتوه من منشوريا.