جانب آخر فى لغز وزارة الداخلية قديم، ويتلخص فى مفهوم الشرطة الذى لم يكن أبدا بعيدا عن معنى القمع أكثر منه قريبا من معنى الأمن، ساعد على ترسيخ هذا المفهوم أنظمة سياسية متوالية رأت فى الشعب أو نخبته السياسية والفكرية عدوا لها، أخذت هذه الأنظمة الشرطة بعيدا عن عملها، كما قلت فى المقال السابق، وغذت شعور الشرطة بالسيادة على الشعب، وتحول ذلك إلى دروس فى دراسة طلاب كلية الشرطة نفسها، أو فى تغذية هذا الإحساس لديهم منذ أول يوم يدخلون فيه الكلية، وساعد على ذلك استمرار قانون الطوارئ ثلاثين سنة، وهو القانون الذى يطلق يد الشرطة فى المجتمع، ويصبح كل شىء مرهونا بثقافة رجل الشرطة أو أخلاقه، فهو بالقانون يمكن أن يفعل ما يريد فى الضحية مجرما أو غير مجرم، وإذا تعامل بشكل طيب، فهذا أمر يعود إليه هو وليس للقانون، تخيل أنت قانونا يستمر ثلاثين سنة يعطى لرجل الشرطة هذه الإمكانية فماذا تنتظر، الذين تخرجوا فى كلية الشرطة منذ ثلاثين سنة صاروا لواءات وعمداء الآن وهكذا، فكل الرتب من أصغرها إلى أكبرها تعلمت وتخرجت فى الكلية فى ظل هذا القانون، هذا فى رأيى أخطر الأسباب القديمة التى جعلت من رجل الشرطة حالة متعالية على البشر، كذلك قانون الاشتباه الذى وضعه مجلس الشعب فى عصر السادات، وهو القانون الذى يعطى حق الضبطية القضائية لأى شخص بمجرد الاشتباه فيه، فى كل الدنيا يتم القبض على المجرم بعد الجريمة، لكن هذا القانون أعطى الحق للشرطة فى القبض على أى شخص ثم الكشف عن صحيفة حالته الجنائية، وطبعا تطور الأمر إلى إلصاق التهم به، لقد شاهدنا على مدار السنين عربات الشرطة تجوب الشوارع ليلا وتقبض على الشباب من المقاهى والنواصى، وكذلك الأكمنة التى تنزل من هم فى السيارات وبالذات الميكروباصات لمجرد الاشتباه، وهذا القانون يجب أن يلغى تماما كما انتهى قانون الطوارئ، هذا القانون للأسف تحول إلى طريقة لجمع المال من المقبوض عليهم لإطلاق سراحهم، وصارت هناك تسعيرة لذلك يعرفها أمناء الشرطة قبل ثورة يناير، وهكذا كان يتم التوسع فيه، أما الجديد فى لغز الشرطة فهو ما جرى بعد ثورة يناير، لقد وضح تماما أن الشعب فى حالة عداء كامل لهذا الجهاز، واستطاع الثوار استخلاص المدن والشوارع منهم يوم 28 يناير، وانهزمت الشرطة أمام الشعب، هذه الهزيمة كان يمكن استخلاص الدروس والعبر منها، لكن حتى الآن لم يحدث، هناك من الشرطة من يرى أن هذه الهزيمة مباراة، ولابد للشرطة أن تكسب الجولة فى النهاية، يعنى تعود إلى ما كانت عليه، وهناك أيضاً بين الشعب من يرى أن الشرطة يجب أن تخضع له، ومن ثم يتعامل معها بشكل مهين مدركا أنها فى حالة ضعف أو أن الثورة فى حالة قوة، وهذه أيضًا فكرة ضارة، وهى أحد الأسباب التى تجعل الشرطة لا تنزل إلى عملها بشكل طبيعى حتى الآن، ولكن كما قلت فى المقال السابق ليس الناس جميعا على هذا النحو، بل على العكس يكونون سعداء جداً حين يرون معاملة طيبة من رجل الشرطة ويتجاوبون معه، بل ويمكن أن يدافعوا عنه أمام من يعتدى عليه، ولقد حدثت أكثر من واقعة من هذا النوع، إذن تظل المشكلة فى إحساس الشرطة بالهزيمة وهو إحساس يجب أن ينتهى، فالشعب المصرى ليس عدوا، وما جرى أيام الثورة كان بسبب الماضى، والماضى يجب أن يتفق الجميع على دفنه، إذن نحن فى حاجة إلى نظام دراسى جديد فى كلية الشرطة يجعل من حقوق الإنسان هدفا، وأن ينتهى الإحساس بالتميز عند الطلاب الذين سيصبحون ضباطا فيما بعد ونحتاج من الشرطة نفسها دفاعا عن نفسها أمام النظام الحاكم، فلا يستخدمها للدفاع عنه ولا يضعها أمام الشعب مرة أخرى، ولقد ساءنى جدا تصريح وزير الداخلية عن حادثة مقتل طالب السويس على يد ثلاثة شبان جعلوا من أنفسهم قوة لما يسمى بالأمر بالمعروف، ساءنى حديث الوزير حين قال إن الأمر ليس كذلك لكنها مشاجرة عادية، ولو أن القتيل كان اعتذر لهم ما حدث شىء، ساءنى من ناحيتين، فإذا كان المقصود بالحديث تهدئة الأمور فهذه سياسة قديمة وضح فشلها، فالأمور لا تهدأ إلا مع الصراحة، وإذا كان ضعفا أمام النظام الجديد الذى صار على رأسه رئيس ينتمى للتيار الدينى فهنا أيضاً خطأ كبير، لأنه يعنى أن الشرطة ستعود إلى حالتها القديمة وهى عدم المساس بالنظام، لذلك كان طبيعيا أن نجد بعد أيام هجوما من هذا النوع من المجانين على صالة بلياردو فى شارع فيصل، نحن نريد من الشرطة أن تنحاز إلى القانون فقط، الخارجون على القانون من السلطة أو من الشعب يتساوون فى الإجرام، لكن كيف تستطيع الشرطة رغم كل ذلك أن تعيد الأمن والنظام إلى الشارع، هل يكفى الآن أن تفعل الشرطة ذلك وحدها، لا أظن، قياسا على ما أرى من فوضى فى كل مكان واحتلال لكل الشوارع والميادين من الباعة، نحتاج نوعا من التنسيق بين الشرطة وبين الأحزاب السياسية، وخاصة أحزاب الأغلبية فى إقناع الباعة على مفارقة الأماكن التى اغتصبوها، ونحتاج دورا لشيوخ المساجد ونحتاج دورا مؤقتا لرجال الجيش، ما يحدث فى الشوارع فى مصر كلها من تجاوزات لا تستطيع الشرطة وحدها الآن معالجته، وسوف تحدث معارك كبيرة بينها وبين هؤلاء الذين اعتبروا مصر سوقا لهم، لذلك ونحن نتحدث عن عيوب الشرطة لا ننسى أننا الآن فى وضع شديد الصعوبة، لكن ذلك لا يعنى أن تتقاعس الشرطة عن دورها، يمكن لوزير الداخلية أن يبدأ فورا فى التنسيق مع الأحزاب ومع وزارة الأوقاف ومع الجيش لإخلاء الشوارع والميادين من محتليها بهدوء، وبعد ذلك يمكن أن تكون مهمة بحث الشرطة عن المجرمين عملية سهلة، وفى النهاية لم يعد هناك قانون طوارئ يمكن الشرطة من إساءة الأسلوب ونحتاج إلغاء قانون الاشتباه الذى سيعفى الشرطة من أى شطط، وأن تصدر الأوامر الحاسمة بعدم التعذيب أو استخلاص الاعترافات بالقوة وتغلظ العقوبة على رجال الشرطة الذين يقومون بذلك، أما التدريس فى الكلية فليس أسهل من إعادة النظر فيه ليكون الشرطى واحدا من أفراد الشعب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة