مصر كلها فى حاجة إلى مبادرة لوقف التطاول وليس الرئيس وحده، فالشتائم والبذاءات والقذف والسب والردح والتخوين وما شابه ذلك، لم يكتو هو وحده بنارها، بل أصبحت من مفردات الحياة اليومية، واللغة المعتمدة فى وسائل الإعلام والمؤتمرات والمظاهرات والمسيرات، ويتعاطاها السياسيون والإعلاميون والنشطاء ورجال القانون وغيرهم ببساطة ودون حرج، فاختفى من حياتنا الأدب لصالح قلة الأدب، وانسحب الحوار وحل محله الشجار، وتراجعت اللغة الراقية أمام المفردات السوقية.
لم يسلم أحد من محاولات الاغتيال المعنوى، وشوهت " ميه النار " وجوها كثيرة، حتى المتواطئين بالصمت، أو الذين يديرون تلك الحروب القذرة، دارت عليهم الدوائر وشربوا من نفس الكأس، فارتدوا عباءة الأخلاق والفضيلة والحكمة، ووصلت القناعة لدى الجميع ذروتها، بأن الرزار المتطاير من بالوعات التطاول لن يترك أحداً إلا لوثه، وأن هذه الحروب المسعورة يجب أن تتوقف، قبل أن تأتى على البقية الباقية من رصيد الاحترام.
لا أكون مبالغاً إذا قلت أن كتائب التطاول وصلت الى ما يطلق عليه فى العلوم الاستراتيجية " حافة توازن الرعب "، وقد منعت هذه الحالة العملاقين الروسى والأمريكى إبان الحرب الباردة من المواجهة النووية، عندما تأكدت كل دولة أنها تستطيع إفناء الأخرى .. ومع فارق التشبيه بين الدول والأفراد فقد وصلت الأزمة بين المصريين الى حافة الخطر ، وآصبحت البلاد مهددة بفتنة كبرى إن لم تتوقف، فسوف تتحول البلاد الى غابة يسود فيها العنف خارج إطار القانون، وهو ما بدأت بشائره فى الظهور.
أولا : من يهون من مخاطر حروب التطاول عليه أن يقرأ - مثلا - التعليقات التى تنشرها بعض المواقع، واللغة المهينة الفادحة التى تستخدم ألفظاًً خادشة للحياء، وإيحاءات جنسية رهيبة يندى لها الجبين، دون أدنى درجات الرقابة الأخلاقية أو الدم والذوق ، والله العظيم أن الساقطات يخجلن من استخدام مثل تلك اللغة التى تتداولها بعض المواقع دون خجل أو حياء ، وتحتها نصيحة وهمية بقراءة برتكول النشر وتحمل المسؤلية الأدبية والقانونية !!
ثانيا : ليس فى مقدور القضاء أو وسعه أن يوقف حروب التطاول ، بعد أن إكتوى هو الآخر بنيرانها و قذائفها، وطالته حملات الإتهام والتشكيك والمطالبة بالتطهير والإبعاد والعزل والإقصاء فكيف يحكم القاضى بالعدل والقانون وهو يتعرض للإبتزاز ، وتحتشد قاعات المحاكم وخارجها بالمتظاهرين والغاضبين ، الذين يصرخون ويزأرون ويهتفون بشعارات تزهق روح العدالة ، ولن يرضوا عن أى حكم إلا إذا كان فى صالحهم .
ثالثا : هل آن الأوان أن تتوقف غرف النار الإلكترونية عن القصف المتبادل بالاتهامات والتشويه والبذاءات والشتائم واستهداف مع من يختلفون معها فى الرأى ، خصوصا وأن السحر انقلب على الساحر وذاق الجميع مرارته، وبات من الصعوبة مواجهة أشباح أليكترونية سرية، بعيدة عن أدنى درجات الرقابة المهنية والأخلاقية والسلوكية، ولا يمكن التحقق من مصداقيتها ، وفى وسع أى شخص أن يخترع إسما وعنوانا وهميا ويبث فيه ما يشاء، وعلى المتضرر أن يخبط رأسه فى الجدران .. فهل يستطيع الذى حضر العفريت أن يصرفه ؟
رابعا : متى تتوقف الاتهامات المتبادلة بالتخوين، والتى تأخذ شكل الموجات المتتالية، وتستهدف كل موجة فصيلا سياسيا، وبعد أن تنتهى منه تتجه لفصيل آخر ؟ ، و كأن مصر تحولت إلى قبائل متناحرة ومتصارعة ومتقاتلة تلتهم بعضها بعضا ، فالوطنى اليوم خائن غدا، والشريف الآن فاسد بعد ساعات ، وكل طرف يفتش فى ملفات الآخر ويبحث له عن المصائب والكوارث بالحق والباطل وتتبارى وسائل الإعلام فى نشر الإتهامات المرسلة والبلاغات الكيدية و كأنها حقائق دامغة ، وانتهكت الصحافة ووسائل الإعلام الحريات العامة والخاصة، دون أغطية قانونية أو أخلاقية تحمى الناس من عدوانها وتغولها.
خامسا : أين ميثاق الشرف الإعلامى المأسوف عليه ، وقد أصبح مثل " خيال مآته " لا يخيف العصافير ولا تخشاه الغربان ، بينما مجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة منشغلان فى لعبة التكويش على مقاعد رؤساء التحرير بمسابقة هزلية تشبه كادر المعلمين ، وغير مهتمين بالمرة بقضية إنهيار مبادئ و سلوكيات و سائل الإعلام التى أصبحت كالنار " تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله " .
المشكلة أكبر بكثير من التطاول على رئيس الجمهورية - الذى استنكره ولا أقره - فالرئيس كان مواطنا عاديا بالأمس ، و سيعود لصفوف المواطنين غدا، ووقف التطاول على الرئيس لن يتحقق إلا بوقف التطاول على المواطنين أولا، وأن يبدأ بذلك حزب الرئيس وجماعته ، وأن يبادروا بوقف تلك العربة الطائشة، التى تصوروا إنهم يركبونها ويديرون دفتها ، حتى دهستهم عجلاتها .